تنكأ الأعياد والمناسبات السعيدة جراحات المكسورين، فينز منها دم الحاجة وأمصال القهر والحرمان، إذ لا وجع يوازي عجز الأب أمام "بابا جوعان" أو "بابا أريد لباساً جديداً" أو منذ عام لم آكل لحماً ومنذ أشهر لم أتذوق الموز والحلوى.
بيد أن عجز الآباء، بمعظم بلداننا العربية، بواقع دخول حقيرة بضآلتها، أمام مصاريف كبيرة، يزيد من نزيف جراحات الأهل وشعورهم بالعجز، ولا حول لهم سوى القهر وانتظار آمال تتبدد تباعاً، بعد غلبة الثورة المضادة على تطلعات الربيع العربي وتهدم أحلام شعوب المنطقة بعيش آدمي وعدالة بتوزيع الثروة.
قصارى القول: لنسق سورية مثالاً، وقد تكون الأفقع والأكثر إيلاماً نظراً لاستمرار تفقير وإذلال الشعب من جهة، وبدء ملامح إعادة إنتاج النظام القاتل والمجوّع للشعب، من ميل آخر، ما يوصل قيح السوريين للحناجر، من دون أن يسمع أنينهم صديق أو يأخذ بيد انفراجتهم حليف مدع نظرياً للديمقراطية وحقوق الإنسان.
إذ يبلغ متوسط إنفاق الأسرة السورية اليوم، نحو 6.5 ملايين ليرة شهرياً، في حين لا يزيد الدخل الشهري عن 100 ألف ليرة، لمن له دخل طبعاً، بعد وصول نسبة البطالة لنحو 83%، ما حوّل أكثر من 95% من السوريين إلى فقراء، يحتالون على وجباتهم اليومية بأي شكل، بعد تغيير أنماطهم الغذائية وقبولهم بالحد الأدنى من البقاء على قيد الحياة.
ولولا التحويلات الخارجية التي تصل إلى الأسر السورية، من أهاليهم ومعارفهم وفاعلي الخير، لرأينا جميع السوريين، عدا عصابة بشار الأسد، يشتهون الخبز بواقع الندرة وارتفاع الأسعار وانسداد أية آفاق بتحسين الدخول وكفاية الأسر.
ولأن بعض أنصار الأسد، من تجار الأزمات وحديثي النعم، يرون بالمناسبات فرصة، لتصريف الإنتاج المحتكر ورفع الأسعار، شهدت سورية خلال أيام ما قبل العيد، ارتفاعات أسعار يمكن وصفها ودونما مبالغات بالجحيم، فأن يصل سعر كيلو حلوى العيد إلى ثلاثة أضعاف الراتب الشهري، فهذا حدث لم يعرفه السوريون من ذي قبل، وأن يتعدى سعر كيلو اللحم دخل أستاذ الجامعة، ففي ذلك تتمة لمشروع الإذلال وإشغال الناس بلقمة عيشهم.. هذا إن لم نتكلم عن حق الأطفال بثياب العيد والتي وصلت كلفتها ولطفل واحد، إلى أجر الموظف لخمسة أشهر، إذ لا يزيد لقاء ما تمنحه حكومة الأسد لموظفيها عن سعر حذاء من النوع الرديء.
وأمام هذا الواقع الخانق، جاد نظام القتل والوراثة بدمشق، على موظفيه بمنحة لمرة واحدة قبيل العيد، لم تتجاوز قيمتها مائة ألف ليرة، ما يعني أقل من سعر كيلو لحم ونصف كيلو حلوى عيد، ولزوم على أبواق العصابة بدمشق ومتطفلي الإعلام، أن يمدحوا منحة القائد ويعتبرونها مكرمة ومنّة جاد بها المعطاء بشار الأسد على الشعب الجاحد الذي انتفض عليه، قبل اثنتي عشرة سنة، مطالباً بكرامته وحريته وحقوقه المسلوبة منذ الوارث الأب.
كما قطعت عصابة الأسد بسورية الطريق على كل من يشكو أو يتذمر من العيش، إذ أصدرت لهم قانون الجرائم الإلكترونية التي تلحق السجن والغرامات المالية الباهظة، بكل من يشكو ضيق العيش أو يتناول سياسة الحكومة أو يتكلم، مجرد طرح، عن تواضع الدخل بواقع ارتفاع الإنفاق.
نهاية القول: ربما تمر أيام غير المناسبات بألم معتاد أو محمول، وقد يمررها السوريون بأبسط الحلول الممكنة لإسكات جوعهم وبلع قهرهم، بيد أن تكبيرات العيد، بعد أيام من العوز والإذلال، كان السوريون بالماضي، يتفننون خلالها بتحضير مستلزمات العيد وضيافته، تعيد لهم الصفعة وتمرر شريط قتل حلم ثورتهم بكل ما فيه من تآمر وخيانات، لتتضاعف جرعة القهر خلال العيد حينما يرون تهافت زعماء المنطقة إلى دمشق، ليعيدوا تجديد الولاء لقاتل حوّل أغنى دول المنطقة، بثرواتها وكفاءاتها وصناعتها وتجارتها، إلى ملجأ أيتام، يتحنن عليها الغرب حيناً ضمن لعبة الدول المانحة، وتتصدق عليهم الدول الشقيقة ضمن مسميات الشفقة والعطف.
ربما كل عام وأنتم بخير لا تطاول جلّ شعوب المنطقة المقهورة، فلا خير سيطاولها ما دامت أسيرةَ مستبدين يرون أن الأوطان تبدأ من قائمة الكرسي وتنتهي عنده، وربما بمرور الأعياد، فرصة متجددة لتجرّع الآلام واستذكار أين كنا وما حلّ بنا.