يقف المسؤولون في لبنان أمام امتحانٍ جديدٍ عنوانه "حقل كاريش" النفطي وسط مخاوفٍ شعبية جدية من التنازل عن جزءٍ كبيرٍ من ثروة وطنية لا تزال كامنة في البحر اللبناني، كما أهدروا بسياساتهم وممارساتهم المال العام، في ظلّ ما يتردّد عن صفقةٍ ثلاثية إسرائيلية – أميركية - لبنانية تعدّ على "نيران هادئة".
يأتي ذلك في ظل إبقاء الجهات اللبنانية الرسمية السلاح التفاوضي الأقوى بالنسبة اليها، ألا وهو المرسوم 6433 بتعديلاته، في أدراجها، والاستعاضة عنه في الوقت الراهن بدعوة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين حامل الجنسية الإسرائيلية، الذي سبق أن كان عنصراً في جيش الاحتلال، إلى بيروت بهدف متابعة المفاوضات.
وأثار وصول سفينة وحدة إنتاج الغاز الطبيعي والتخزين "إينرجيان باور" اليونانية البريطانية إلى حقل كاريش في بحر فلسطين المحتلة ضجة كبيرة في لبنان، رغم أن الحدث لم يكن مفاجئاً، ما دفع خبراء النفط اللبنانيين والشخصيات السياسية التغييرية إلى رفع الصوت عالياً والتحذير من خطورة استخراج الجانب الإسرائيلي الغاز في حقلٍ متنازع عليه بما يطيح جزءاً كبيراً من ثروة لبنانية معترف بها في القوانين الدولية.
وسارع هؤلاء إلى تنظيم وقفات احتجاجية ودعوة السلطات اللبنانية الرسمية، على رأسها رئيس البلاد ميشال عون، إلى توقيع تعديل المرسوم 6433 المقترح من قيادة الجيش اللبناني باعتماد الخط 29، الذي يبدأ من رأس الناقورة (جنوباً)، حدوداً له بدلاً من الخط 23، ما يسمح للبنان بالاستفادة من حقل كاريش عدا عن حقل قانا النفطي، وتالياً إيداعه الأمم المتحدة وتوجيه إنذار لأي شركة قد تتعاقد مع الاحتلال الإسرائيلي لاستخراج النفط ضمن منطقة متنازع عليها.
اكتشاف كبير
وتأتي هذه التطورات في وقتٍ يرزح الشعب اللبناني تحت أسوأ ازمة اقتصادية في تاريخ البلاد. وفي هذا السياق، يرفع المؤرخ والباحث في قضايا ترسيم الحدود عصام خليفة الصوت عالياً، مُحذِّراً من تخلّي المسؤولين عن ثروة لبنان وشعبه الغازية والنفطية التي تقدَّر بمليارات الدولارات وتعدّ السبيل شبه الوحيد لخروج البلاد من أزمتها الاقتصادية الكارثية.
ويتطرق خليفة في حديثه مع "العربي الجديد" إلى دراسة أوردتها مجلة أميركية علمية "U.S Geologial Survey" تقول إن حوض المتوسط الشرقي يوجد فيه 1.7 بليون برميل نفط و122 ترليون قدم مكعبة من الغاز، ما يعدّ بمثابة أكبر اكتشاف نفطي في العالم منذ عقود.
ويشير إلى أن استمرار المسار الصامت للسلطات يعني تخلي لبنان عن حقوقه الوطنية وخسارته ثروة بمئات مليارات الدولارات، هذا من دون الحديث عن حقل قانا الذي يتخطى حجمه حقل كاريش بمرتين ونصف والاحتلال الإسرائيلي يريد مشاركة لبنان به.
ويضيف خليفة "إذا قسمنا هذه الثروة على المناطق الاقتصادية الخالصة لقبرص وإسرائيل وسورية ولبنان، لأمكننا أن نستنتج أن الثروة التقريبية للبنان لا تقل عن 1725 مليار دولار، ومن النفط أيضاً مبالغ لا تقل عن ذلك، في حال أخذ ثلث مردوده من الغاز ومن الشركات المشغلة".
ويلفت المؤرخ اللبناني إلى أن لبنان سبق أن خسر 2277 كيلومتراً مربعاً من ثروته الوطنية، وذلك حين أخطأت الحكومة اللبنانية في تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة مع قبرص عام 2007، عدا عن مطالبة سورية بـ 750 كيلومتراً مربعاً في شمال المنطقة الاقتصادية الخالصة.
إهمال متواصل
يشير خليفة إلى أن سياسة لبنان النفطية دائماً ما كانت خاطئة وتهدر ثروته الطبيعية في البحر والبرّ ولا تستغل هذه الموارد. ويقول: "لدينا مصفاة مثلاً في طرابلس، شمالي لبنان، كانت تصدر عام 1936 5/3 استهلاك فرنسا من النفط، ولا يصار إلى صيانتها أو تجهيزها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مصفاة الزهراني جنوباً، في حين يستمر المسؤولون بالخضوع لكارتيلات احتكارية من الشركات التي تتحكم بسوق النفط والغاز، التي تسرق وتنهب وتضع فيولاً مغشوشاً في معامل الكهرباء لتدميرها، وتُوزّع الأرباح بين السياسيين".
ويلفت إلى أن "ذلك كله في وقت يعاني الشعب اللبناني من أسوأ أزمة اقتصادية وتلهبه أسعار المحروقات التي تخطت ارقاماً قياسية وفاقمت كارثته، خصوصاً أن لها انعكاسات سريعة على الكثير من القطاعات والخدمات والحاجات الأساسية".
ويتوقف خليفة عند ما نقل عن وسائل إعلام إسرائيلية أن "إسرائيل اقترحت على لبنان ضخ الغاز وتقاسم الأرباح معه"، ليعتبر ذلك بمثابة اعتراف من قبل الاحتلال بأن وضعه غير قانوني وأن حدود لبنان بالخط 29 الذي يبدأ من رأس الناقورة.
من جهة ثانية، يرى خليفة أن الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين لن يأتي بحلٍّ عادلٍ، وهو بمجيئه بدعوة من السياسيين اللبنانيين يريد حفظ ماء الوجه أمام الرأي العام، وعلى لبنان أن يقدم قبل كل شيء على إرسال التعديل المقترح من قبل قيادة الجيش اللبناني للمرسوم 6433 إلى الأمم المتحدة، وإعطاء الوثائق للوسيط الأميركي وكل الدول، صديقة كانت أم غير صديقة، لتأكيد حقنا الذي تعترف به القوانين الدولية، وإلا تجب محاكمة المسؤولين في لبنان بالخيانة العظمى.
من أعطى الضمانات؟
وحول موقف حزب الله من الملف وتعيينه مسؤولاً رفيعاً لمتابعته وكلام أمينه العام حسن نصر الله عن الموضوع، بعدما كان ينأى بنفسه في العلن عن القضية، يقول خليفة إن "حزب الله وبمراقبة مواقفه لم يأتِ مرّة على ذكر الخط 29، علماً أنه كان مشاركاً في الحكومات السابقة، ومنها عام 2011 التي كانت برئاسة نجيب ميقاتي، تاريخ صدور المرسوم 6433 قبل تعديله بما يحفظ حقوق لبنان، كما أنه قادر بكل سهولة على إقناع الرئيس ميشال عون بالتوقيع على التعديل وإيداعه مع الإحداثيات عند الأمم المتحدة، لكنه يتلطى خلف الدولة. عن أي دولة يتحدث؟".
بدوره، يقول الباحث في مجال الطاقة في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت مارك أيوب، لـ"العربي الجديد"، إنّ عدم تحرك لبنان يعني خسارته جزءاً كبيراً من ثروته، وذلك بخطأ داخلي من قبله، من هنا أهمية توقيع تعديل المرسوم الذي يجعل حقل كاريش ضمن منطقة متنازع عليها، ويوقف بالتالي الأعمال الإسرائيلية.
ويأسف أيوب لطريقة تعاطي المسؤولين في لبنان مع الملف رغم أهميته، منبهاً إلى مخاطر المماطلة التي تؤخر البلاد من استثمار ثروتها وتلحق بها خسائر اقتصادية كبيرة، خصوصاً للأجيال المقبلة.
ويتوقف أيوب عند قول الشركة اليونانية البريطانية "إينرجيان باور" في وقتٍ سابقٍ إنها تلقت "ضمانات" بالتنقيب ربطاً بأن الحقل يقع ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل، سائلاً: "من أعطى هذه الضمانات؟ هل هي الجهة الأميركية؟ أم الداخل اللبناني؟"، معتبراً أن طرح الوسيط الأميركي بات معروفاً ولم يعد متصلاً بترسيم الحدود البحرية، بل بتقاسم الموارد في الحقول المشتركة، وذلك ما حمله في زيارته الأخيرة للبنان في فبراير/شباط الماضي.