إذ ببساطة، قد ترفع أنقرة صفر مشاكل مع سورية، لكن بشار الأسد لا يرضى بالتصفير وسيستمر بعدائه للحكم بتركيا، وربما تمد تركيا اليد لليونان، فتشيح أثينا بوجهها أمام الاستمالة الفرنسية وخلافات ثروات المتوسط وملف قبرص، وكذا وصولاً لما يمكن أن تفرضه إسرائيل من شروط أو ما تريده مصر من إعادة اتفاقات.
بيد أن الملامح البادية بالسياسة التركية أخيراً، أو بشكل أدق، قبل انتخابات العام المقبل، البرلمانية والرئاسية، إنما تركز على "صفر مشاكل" خاصة مع دول، ترى أنقرة عودة العلاقات معها، أو سحب فتيل الخلاف، ضرورة للوضع الداخلي التركي وحاجة خارجية تتطلع إليها تركيا التي تمددت بأدوات ناعمة، تجارية وإعلامية وقواعد وشركات، إلى أفريقيا وآسيا والمنطقة العربية.
بيد أن السؤال الأول الذي يتوثب على الشفاه، بعد الذي نراه، من تبدل التعاطي التركي أو إعادة تدوير الزوايا هو: هل "صفر مشاكل" والانكفاء إلى الداخل التركي، يتناسبان مع قيادة الرئيس رجب طيب أردوغان الطموحة، ربما إلى ما هو أبعد من دخول نادي العشرة الكبار، وبدء العد التنازلي باتجاه النووي التركي منذ عام 2023 وعودة التواجد التركي في دول الإمبراطورية العثمانية السابقة؟!
ليتبعه سؤال ثان، هل نهج أحمد داود أوغلو، الليّن والدبلوماسي المتكئ على النفوذ الثقافي والمعرفي، أو زج الموقع الجيوسياسي لتركيا كحد أقصى بالتعاطي، يمكن أن يناسب تركيا بعد عام 2014 وقت رفعت البراغماتية شعاراً والأمر الواقع أحياناً، سلوكاً، لتعيد تموضعها كقوة، بشرية واقتصادية وسياسية، بعد الذي هشمته الحرب الباردة؟!
وأيضاً، هل "صفر مشاكل" تحمي الطموحات التركية من التدخل الخارجي، وهي المنقسمة بين حلف الناتو انتماءً ووارسو تعاطياً، هذا إن لم نأت على طموحات الرئيس أردوغان وسرعة الانطلاقة بعد رمي كل حمولات وإرث معاهدتي "سيفر 1920" و"لوزان 1923"؟
ولكن بالمقابل، ألم تصطدم تطلعات أردوغان، بتحالفات جديدة فرضتها إعادة رسم الخرائط والتحالفات بالمنطقة، لدرجة بلوغ تركيا العداء مع كل دول الجوار، ما أثر على تدفق الاستثمارات إن لم نقل هجرتها وهروبها، ونالت العداءات من سعر صرف العملة وضربت مواسم عدة للسياحة؟
ألم يلتق الأضداد على عداء تركيا، سواء خلال منتدى غاز المتوسط الذي تأسس بمصر 2019 وضيّق الخناق على أحلام تركيا الطاقوية بالبحر المتوسط، أو بالقطيعة الخليجية المصرية التي أضرت بالأحلام التركية شرقاً؟!
ألم تصطدم تطلعات تركيا بالتقلبات الأميركية، بين جمهوريين وديمقراطيين، فتعدت الأبعاد عن برنامج تصنيع طائرات إف-35 وشراء 100 طائرة، ووصل التصادم لفرض عقوبات ورفع رسوم جمركية؟
بل ووصل الحال بتركيا، أن وصلت إلى ما قبل التصادم مراراً، إن مع اليونان أو مصر. وبلغت بمستوى القطيعة، مع الإمارات والسعودية، مراحل الإساءة والعداء.
نهاية القول: ثمة أثمان وربما باهظة، إن على مستوى تبدل السياسة الخارجية التركية وعودة العلاقات مع من وصفتهم تركيا بـ"الديكتاتوريين" أو على مستوى قبول شروط الجوار، بما يتعلق باللاجئين من معارضات دول الربيع العربي، أو من وصفتهم تركيا بالمهاجرين واختارت لنفسها موقع الأنصار.
بل وربما تبدُّل كامل لهوية تركيا التي رسمها الحزب الحاكم منذ عشرين سنة، على احتمالات المغامرة لرسم مجال حيوي أو عمق استراتيجي.
لتكون ربما بالفترة المقبلة، ملامح إجابة لجميع هذه التساؤلات التي تصل إلى مراتب الهواجس.
فاليوم يزور الرئيس التركي أوكرانيا بوقت يقترب من ساعة الصفر بين كييف وروسيا، وقد تترتب على هذه الزيارة فواتير وجفاء روسي.
وخلال مارس/آذار المقبل، من المفترض أن يزور رئيس إسرائيل، إسحاق هرتسوغ أنقرة ومعه مطالب تبدأ بحركة حماس ولا تنتهي بعلاقات اقتصادية، والثمن المقابل لا يتعدى، تحويل العلاقات مع تركيا، من مجمدة إلى باردة.
ومن المتوقع أن يزور الرئيس التركي السعودية، بعد طي ملف مقتل جمال خاشقجي، ليواجه بمطالب قبل عودة التبادل التجاري ورفع الحظر عن المستوردات التركية والسياحة.
وربما بزيارة أبوظبي، المدرجة في جدول الرئيس التركي هذا الشهر، المهمة الأسهل، بعد كسر جليد القطيعة خلال زيارتي طحنون ومحمد بن زايد لأنقرة.
ليكون بعودة "صفر مشاكل" إذا عادت، انتقال تركيا من ضفة إلى أخرى، تساعدها بالتكيف مع المحاور والتكتلات وتتناسب والظروف الإقليمية والدولية المستجدة.
ليبقى الهدف الأهم الذي يستأهل من منظور تركيا، هذا التحول وتلك الأثمان، وهو محاولة لملمة الأوراق الداخلية التي زاد تبعثرها، وعلى مستوى الاقتصاد خاصة، قبل استحقاق الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، والذي سيحدد ملامح وأدوار تركيا، إن بوجود الرئيس أردوغان أو من دونه.