"الخريف الحار" في أوروبا يسعد بوتين... الغلاء ينذر باضطرابات واسعة

12 سبتمبر 2022
احتجاج على ارتفاع الأسعار أمام مبنى البلدية في مدريد (Getty)
+ الخط -

ترتسم ملامح اضطرابات واسعة في أوروبا وغيرها من دول العالم، على خلفية الفواتير الضخمة التي يدفعها المواطنون بسبب قفزات أسعار الطاقة والسلع الأساسية، ما ينذر بنزول المواطنين إلى الشوارع في نوبات غضب ضد الحكومات، وهو ما يجعل هذا الخريف "سعيداً" بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يستخدم كل ما في جعبته من أسلحة الطاقة لإضعاف الجبهة الغربية ضده وتقسيم المجتمعات من خلال ما وصفه محللون بسياسة "عزل الأعداء ومكافأة الأصدقاء".

في خريف هذا العام، من المرجح أن تشتعل الاضطرابات المدنية في 101 دولة (من بين 198 دولة تخضع للمراقبة)، وفقاً لمؤشر طوّرته شركة الأبحاث "فيريسك مابليكروفت"، وتراوح النقاط الساخنة من سريلانكا والجزائر إلى أوروبا الغنية نسبياً، وفق أندرياس كلوث، رئيس تحرير صحيفة "هاندلسبلات غلوبال" الاقتصادية الألمانية.

يقول كلوث، في مقال نشرته وكالة بلومبيرغ الأميركية، اليوم الاثنين، إن الدافع الرئيسي بالطبع وراء هذه الاضطرابات هو التضخم، خصوصاً ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة، الذي تسبّب بوتين في جزء كبير منه، بجانب عوامل أخرى، إذ قدم المواطنون في ألمانيا والتشيك لمحات مبكرة عن نمط مقلق بشكل خاص بشأن الغضب من الغلاء.

ونزل عشرات الآلاف من الناس إلى شوارع العاصمة التشيكية براغ، في الأسبوع الأول من سبتمبر/أيلول الجاري، وطالبوا الاتحاد الأوروبي بإلغاء العقوبات المفروضة على روسيا، وإبرام صفقة غاز جديدة مع بوتين، والتوقف عن تسليح أوكرانيا، إذ ألقى كثيرون باللوم على الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وليس بوتين، في كل ما هو خطأ في العالم. وحرص المتحدثون البارزون على تأجيج المشاعر من أقصى اليمين وأقصى اليسار.

أعربت 16 نقابة ألمانية، الشهر الماضي، عن غضبها من ارتفاع أسعار الغاز، مطالبة حكومة بلادها برفع جميع العقوبات عن روسيا من أجل عودة تدفق الوقود الأزرق بشكل طبيعي

والتضخم في جمهورية التشيك، المدفوع بشكل رئيسي بارتفاع تكاليف الإسكان وارتفاع أسعار الطاقة، هو الأعلى حالياً منذ عام 1993، كما يتوقّع البنك المركزي في البلاد أن يبلغ ذروته عند حوالى 20% في الأشهر المقبلة.

وفي يوم الاثنين الماضي وصلت الاحتجاجات التشيكية شمالاً إلى المنطقة التي كانت في ما مضى ألمانيا الشرقية، إذ احتشد الآلاف في لايبزيغ وماغديبورغ. إذ ندد المتظاهرون بالتضخم، وأسعار الطاقة، والنخبة السياسية التي قالوا إنها قاسية وغير كفوءة.

وبدا المتظاهرون على الأقل متحمسين للتعبير عن التعاطف مع بوتين، واللامبالاة تجاه أوكرانيا، والنقد اللاذع تجاه الغرب بقيادة الولايات المتحدة، ما يجعل ميول الغضب لدى أولئك الموجودين على الهامش السياسي في جميع أنحاء أوروبا جمهوراً مثالياً لبوتين، وفق الكاتب الألماني، مشيرا إلى أن "هذا الخريف الحار" سيشهد أكبر اختبار لأوروبا.

والشهر الماضي، أعربت 16 نقابة ألمانية عن غضبها من ارتفاع أسعار الغاز، مطالبة حكومة بلادها برفع جميع العقوبات عن روسيا من أجل عودة تدفق الوقود الأزرق بشكل طبيعي. كما تعددت مظاهر السخط الاجتماعي في العديد من الدول لتتعدد الإضرابات العمالية احتجاجاً على الغلاء وارتفاع كلف المعيشة.

كما أصبحت سياسة الطاقة نقطة اشتعال في النقاش السياسي السويدي، حيث أعلنت المعارضة سياساتها الخاصة في الأسابيع الماضية التي تهدف إلى تخفيف آلام الأسر وإلقاء اللّوم على الحكومة وتحميلها مسؤولية نقص الطاقة في الجنوب بعد إغلاق بعض المفاعلات النووية قبل بضع سنوات.

وفي إيطاليا من المتوقع أن تصل كلفة استيراد الطاقة إلى نحو 100 مليار يورو (99.5 مليار دولار)، خلال العام الجاري، بحسب وزير الاقتصاد الإيطالي دانييلي فرانكو، خلال منتدى أمبروسيتي السنوي للأعمال في "تشيرنوبيو"، قبل نحو أسبوع، ما يزيد من متاعب الدولة التي تعاني من أزمة ديون.

الساسة الأوروبيون خصصوا نحو 280 مليار يورو (279 مليار دولار)، لتخفيف آلام ارتفاع أسعار الطاقة على الشركات والمستهلكين، لكن ضخامة الأزمة تُعرّض المساعدات لخطر التضاؤل

وفي أعقاب ما يقارب سبعة أشهر من بدء العقوبات الواسعة ضد روسيا على خلفية غزوها أوكرانيا في نهاية فبراير/شباط الماضي، تعمل روسيا على سياسة "عزل الأعداء ومكافأة الأصدقاء"، وفق تقرير نشرته وكالة بلومبيرغ في نهاية أغسطس/آب، والتي تسير على مستويين في الطاقة والمالية، إذ سمحت موسكو بتداول سندات الدين للمستثمرين من البلاد التي لم تطبق العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، بينما حظرت تخارج بعض البنوك الأجنبية وشركات الطاقة من أنشطتهم التجارية في روسيا بجانب إجراءات أخرى تتعلق بتعامل البنوك الروسية مع هذه الشركات.

كما اتبعت روسيا سياسة إمداد الأصدقاء في أوروبا بالغاز مقابل تقليصه أو قطعه عن الأعداء مع فرض العملة الروسية في إبرام الصفقات.

وما إن هدأت مخاوف الأوروبيين قليلاً حيال الشتاء المقبل، بعد إعلان العديد من الحكومات تباعاً خلال الأسابيع القليلة الماضية زيادة مخزونات الغاز إلى مستويات كبيرة، تصل إلى حدود 90% في بعض الدول، حتى أعلنت روسيا، في وقت سابق من سبتمبر/أيلول الجاري، أن خط أنابيبها الرئيسي إلى أوروبا لن يستأنف التدفقات كما هو مخطط له، ما يمثل ضربة للجهود الأوروبية، ليس فقط بالنسبة إلى رفع مستويات المخزون، بل أيضاً قد يؤدي إلى استنزاف ما جُمع لمواجهة أيام عجاف تدنو من كبار المستهلكين.

وعدم استئناف الإمدادات عبر "نورد ستريم 1" يزيد من مخاطر انقطاع التيار الكهربائي ويشعل موجة غلاء السلع والخدمات من جديد، بينما كانت دول الاتحاد الأوروبي قد عكفت على تكوين مخزون مؤقت لمواجهة البرد.

روسيا تستخدم الغاز كسلاح لزعزعة القرار الأوروبي، وربما القضاء على تماسك وحدة القرار الأوروبي في المستقبل وإشعال نار ثورات شعبية بسبب الفواتير الضخمة التي يدفعها المواطنون للكهرباء والتدفئة

ويتوقع محللون للطاقة في مؤسسات مالية عالمية أن يؤدي تعطل تدفقات الغاز الروسي عبر الخط إلى ارتفاع كبير في الأسعار. ووفق تقرير لبنك الاستثمار الأميركي غولدمان ساكس، الأسبوع الماضي، فإن أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا سترتفع قرب مستوياتها القياسية التي سجلتها خلال أغسطس/آب، "ما يعيد إشعال حالة عدم اليقين في السوق في ما يتعلق بقدرة منطقة الاتحاد الأوروبي على إدارة المخزونات خلال فصل الشتاء".

التضخم في منطقة اليورو يصل إلى 9.1%

وفي محاولة لامتصاص حالة الاحتقان في الشارع، خصص الساسة الأوروبيون بالفعل نحو 280 مليار يورو (279 مليار دولار)، لتخفيف آلام ارتفاع أسعار الطاقة على الشركات والمستهلكين، لكن ضخامة الأزمة تُعرّض المساعدات لخطر التضاؤل.

وبلغ التضخم في منطقة اليورو مستوى قياسياً في أغسطس/ آب، مسجلاً 9.1% على أساس سنوي، حسب بيانات صادرة عن مكتب المفوضية الأوروبية للإحصاء (يوروستات)، مطلع الشهر الجاري، ما يفاقم الضغوط على البنك المركزي الأوروبي الذي سيرفع أسعار فائدته قريباً، وهو ما يزيد من المصاعب المالية والمعيشية لعشرات ملايين الأسر التي تكابد لسداد أقساط القروض.

وتُعدّ هذه الأرقام الأعلى في تاريخ مستويات التضخم التي يسجلها يوروستات منذ يناير/ كانون الثاني 1997. إذ تسببت الحرب في أوكرانيا والعقوبات المتبادلة بين روسيا والدول الأوروبية في ارتفاع أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة.

ووفق مركز "كابيتال إيكونوميكس" للأبحاث الاقتصادية، فإن التضخم في منطقة اليورو سيزداد أكثر في الأشهر المقبلة وقد يبلغ 10% قبل نهاية العام، متوقعاً ارتفاع أسعار الغاز والمواد الغذائية.

وترى مؤسسات مالية دولية أنّ روسيا تستخدم الغاز كسلاح لزعزعة القرار الأوروبي، وربما القضاء على تماسك وحدة القرار الأوروبي في المستقبل وإشعال نار ثورات شعبية بسبب الفواتير الضخمة التي يدفعها المواطنون للكهرباء والتدفئة.

وكانت روسيا تمدّ الاتحاد الأوروبي بـ41% من حاجته من الغاز الطبيعي، قبل أن تتراجع النسبة إلى ما دون 30% في الوقت الحالي، وسط مخاوف أوروبية من قطع كامل للغاز قبل حلول الشتاء.

وصنفت وكالة موديز العالمية للتصنيف الائتماني في أغسطس/ آب، 6 دول في الاتحاد الأوروبي على أنها "الأكثر انكشافاً" على فرضية وقف روسيا إمدادات الغاز عن دول التكتل، موضحة أن الدول الست هي ألمانيا، والتشيك، والمجر، وإيطاليا، وسلوفاكيا، والنمسا.

دفع أموال أكثر لشراء الغاز

وذكرت أنّ خفض الإمدادات أكثر أو وقفها، سيؤدي إلى الإضرار بالنمو وزيادة التضخم في دول التكتل "كما أنه يزيد من احتمال حدوث أزمة مخاطر ائتمانية".

ووفق تقرير صادر عن وكالة الطاقة الدولية في يوليو/تموز الماضي، فإن أوروبا ستضطر إلى دفع أموال أكثر لشراء شحنات الغاز الطبيعي المسال خلال العام الجاري وربما حتى عام 2025 بسبب عدم وجود الغاز المسال الكافي لتلبية الطلب العالمي، لكن في النهاية ستتمكن من الحصول على كميات الغاز المسال البديل لغاز الأنابيب الروسي.

كما تساهم أزمة الطاقة في إضعاف اليورو الذي هبط لأدنى مستوى له في 20 عاماً مقابل الدولار الأميركي، ما يقوض ميزانيات المستهلكين بشكل أعمق ويهدد بالتسبب في انكماش اقتصادي في الدول الأوروبية.

المساهمون