يميل النقد إلى تأنيب الروائي الذي قد يكتب صفحات أو فصولاً زائدة في الرواية التي كتبها. ويقول الناقد الذي يتبنّى مثل هذه الآراء إن من الأفضل حذف تلك الجمل أو الفقرات أو الفصول، وإنها عيوب فنية يكتبها مبتدئون في الكتابة، أو روائيّون لا يستطيعون أن يفرّقوا بين الضروريات في النصوص الروائية وبين النوافل. وثمّة من يزعم أنّ الرواية الجيدة هي تلك التي لا يمكن أن تُنتزع منها أي جملة، وقد يتطرّف أحد النقّاد فيقول: أي كلمة.
لم أعثر على المصدر الغربي، على اعتبار أنه المرجع الأساسي للنقد الروائي، الذي يقرّر مثل هذا الرأي الحاسم، وليس لديَّ ما يؤكّد أن مقولة همنغواي عن أنَّ الكتابة هي فن الحذف، قد كانت أصلاً لمثل هذا التزمّت النقدي. غير أن الغالب هو أن مثل هذه القواعد تُطبَّق بحرفية جامدة على الأدب العربي وحده أكثر مما تُطبَّق على الآداب المترجمة. وهو ما قد يشير إلى أنّ هذا النقد يستبطن رغبة في السلطة، أو ميلاً إلى الوصاية على النص الروائي، حين يميل إلى تغليب القواعد على النصوص.
ليس لدينا في الغالب أي نموذج يمكن أن يكون مثالاً، لا في الأدب العالمي ولا في الأدب العربي؛ ففي كل رواية عربية أو مترجمة قرأتُها تمكّنت من انتزاع كلمات وجمل وفقرات، بل استطعت القفز فوق صفحات من الرواية، واكتشفت أنها لم تتزعزع، وأنّ الموضوع مستمر ولا أعطال جانبية ولا خرائب في المسيرة. ومع ذلك، فإن بعض تلك الروايات مصنفة عالمياً وعربياً ضمن ما يُعرف باسم أعمال خالدة أحياناً، وأدب عالمي أحياناً أخرى.
أظن أن أكثر الأعمال الروائية شهرة في هذا المجال هي رواية "الحرب والسلم" لـ تولستوي؛ ففي الجزء الثاني من الكتاب الرابع في الترجمة العربية، مائة صفحة من الأفكار والتأمّلات في القوّة والسلطة وحرية الاختيار وإرادة الإنسان وغيره.
وفي رواية "الحب في زمن الكوليرا"، لا يعلم القارئ لماذا يخرج السرد عن مساره، ويقدّم لنا ماركيز شرحاً إضافياً عن سيرة الأرامل.
أما في "كتاب الأوهام" لـ بول أوستر، فيمكنك أن تحذف فقرات، وربما فصلاً، دون أن يؤثّر هذا على البنية الفنية للرواية أيضاً، وليست روايته الأخيرة "1234" أفضل أيضاً من حيث التماسك الروائي، ويمكنك أن تتجاهل صفحات كثيرة منها وأنت مرتاح إلى النتيجة النهائية.
ولو تفرّغ بلزاك لشطبْ الزيادات من رواياته لما أكمل كتابة رواياته في الكوميديا الإنسانية؛ ففي كل رواية يمكنك أن تحذف العشرات من الصفحات، دون أن يتأثّر الحدث البتة.. ما الحل؟
لا تعريف للرواية، وما يشفع للنص هو المهارة الفنية، وهو المتعة التي يقدّمها للقارئ، وهو المعنى الذي يزخر بالإنسانية، ولهذا فإن كل نصّ روائي مكتوب بمهارة من حيث البناء الفنّي، يمكن أن يُعتبَر مشروع نظرية جديدة في الرواية، لا تقبل الآراء الحاسمة والنهائية، ولا الحساب الرياضي، أو الإحصائي للمفردات والجمل.