فرانسوا فولني... وصف حلب حين كانت أجمل مدن سورية

06 يوليو 2019
قلعة حلب
+ الخط -

وضع فولني أخبار رحلاته في كتاب صدر قبل الثورة الفرنسية بعدة أعوام 1787، وهو مستشرق وإثنولوجي فرنسي اسمه الكامل (قسطنطين فرانسوا شاسبوف دي لاجيرودي) كونت فولني، والمعروف اختصار باسم (فولني).

ولد في 1757 وتوفي في 1820، وكانت له علاقة غريبة مع نابليون بونابرت الذي اعترف أن مقالات فولني وكتابه (رحلة إلى مصر وسورية في السنوات 1783-1785) هما اللذان ولدا في رأسه فكرة غزو مصر وسورية. ويقول فولني في مقال لاحق إنه صاحب فكرة الوصول إلى القسطنطينية عن طريق سورية.

وعلى أية حال استمرت العلاقة بين الرجلين حتى حصل انقلاب التاسع من نوفمبر 1799 بقيادة نابليون، فعرض على فولني وزارة الداخلية، ولكنه رفض وفضّل أن يظل سيناتوراً فوق العادة.

تضمنت أخبار رحلة فولني معلومات تفصيلية عن ولايات بلاد الشام في نهاية القرن الثامن عشر حيث كانت الإمبراطورية العثمانية تعيش حالة من التسيّب والفوضى، مهدت للدول الغربية ببسط سيطرتها على المنطقة فيما بعد. وقدم أوصافاً علمية ومهمة عن أوضاع سورية في ذلك الزمن الخطير، ولذلك تعد هذه الرحلة مرجعاً أساسياً لكل من كتب تاريخ بلاد الشام في ذلك الوقت.


ولاية حلب

بدأ فولني رحلته من ولاية حلب في عام 1783 التي قال إنها تمتد من نهر الفرات إلى البحر الأبيض المتوسط، وقال إن مساحة الولاية تتكوّن من سهلين كبيرين؛ سهل أنطاكية في الغرب، وسهل حلب في الشرق. أما جهتا الشمال وشاطئ البحر فتشغلهما جبال متوسطة الارتفاع، وقد كان يطلق عليها قديماً اسما (أمانوس وروسوس).

ويقول فولني: "إن طبيعة الأرض في هذه الولاية غنية وطينية، تغطيها أعشاب طويلة ونباتات غنية بعد موسم الأمطار، ورغم الخصوبة الظاهرة في الأرض إلا أننا نلاحظ خلوها من أشجار الفاكهة تقريباً، القسم الأعظم من أراضي الولاية مستغل، في محيط القرى والمدن نجد زراعات الحنطة والشعير والقطن الذي يُزرع بشكل خاص في السهول. في الجبال يفضلون زراعة الكرمة، والتوت والزيتون والتين، أما الشريط الساحلي فُيزرع فيه التبغ، وفي حلب نجد بشكل خاص أشجار الفستق، هذا عدا عن المراعي الوفيرة المتروكة للبدو من الكرد والتركمان".

وحول صلاحيات الوالي يقول فولني: "في ولاية حلب، كما في معظم الولايات، فإن الباشا حسب السلطة الممنوحة له هو الوالي؛ أي نائب السلطان، وهو كذلك الحاكم العام للبلاد، ومع ذلك فإن الباب العالي يعين عليه (تحصلدار) أو كاتباً، وهو المسؤول عن متابعة الحسابات بشكل يومي".

بعد ذلك يتحدّث عن نظام الالتزام الذي دمّر السلطنة العثمانية وجعل المناصب تباع وتشرى بمعزل عن حاجات ومصالح السكان. "كان الباب العالي يمنح الوالي فرماناً لمدة عام واحد فقط قابل للتجديد، والسعر الحالي لمنصب الوالي هو ثمانمائة صرة، أي ما يعادل مليون فرنك من نقودنا (الفرنسية)، ويجب إضافة ما بين ثمانين ألفاً إلى مائة ألف فرنك لما يسمّى بـ (حق البابوج) أي الرشوة التي تدفع للوزير ولبعض المتنفذين في الباب العالي، وفي مقابل هذين المبلغين يحصل الوالي على كل حقوق الولاية وهي: حق الجمرك على البضائع الواردة والصادرة من أوروبا والهند والقسطنطينية، وعلى البضائع التي تصدرها البلاد على سبيل المبادلة أو المقايضة. وحق العبور على القطعان التي يوردها الأكراد والتركمان من أرمينية وديار بكر لبيعها في سورية. والخمس من واردات ملّاحات الجبول. والمال الميري أو الضريبة المفروضة على الأراضي والمحاصيل".

ثم يقول إن "هذه المداخيل مجتمعة يمكنها أن تصل إلى مليون وستمئة ألف من الجنيهات .عدا هذه المداخيل المربحة فإن الراتب الفعلي المقطوع للباشا يقدر بـ (80 ألف بسيتار، أي ما يعادل 200 ألف جنيه) فقط".

ثم يلفت النظر إلى أن "جميع هذه المداخيل لا تكفي لمصروفات الباشا، حيث يجب عليه الإنفاق على القطعات العسكرية التي لديه، كذلك يجب عليه تأمين وإصلاح الطرق، والقلاع التي تحت مسؤوليته، ويجب أن يعلن عن تمام الجهوزية دائماً أمام وزراء الباب العالي، حتى يحافظ على مكانه، ولكن الباب العالي لا ينسى أن يحسب الضريبة المفروضة على الرعاة التركمان والأكراد، وكذلك الجزية المفروضة على القرى والخواص".

ويشير إلى أن والي حلب عبدي باشا يحكم منذ اثني عشر أو ثلاثة عشر عاماً، واستطاع أن يجبي أربعة عشر مليوناً من الجنيهات، عندما فرض ما يشبه "الخاوة" على جميع أصحاب الصنائع حتى من يقومون بتنظيف غلايين التدخين!

ويضيف "أن الباشا نظرياً يتم تكليفه لمدة ثلاثة أشهر، قد تمدد لستة أشهر، وأحياناً سنة كاملة، وهو مكلف بحفظ الأمن والأمان والدفاع عن الدولة ضد أي عدو داخلي كان أم خارجي، ولهذه المهمة فإنه في الغالب يمتلك تحت يده ما بين ستمئة إلى سبعمئة فارس، ونفس العدد تقريباً من المشاة، وعدا عن هؤلاء فإن الباشا من حقه أن يمتلك فرقاً من "الانكشارية"، وهم نوع من المليشيات المحلية، كما هي الحالة العسكرية في مجمل أنحاء سورية.


الانكشارية

وحول الانكشارية يقول إنهم "منتشرون في كل ولاية من ولايات سورية، وهم عدد من الرجال المنظمين والجاهزين للتحرك في أي اتجاه حسب الطلب، وبما أن الانتماء للانكشارية يعتبر نوعاً من الامتياز والإعفاءات الضريبية وخلافه، فهذا يوجد تنافساً قوياً في الانتماء لفرقها، وقديماً هذه الفرقة كانت تحظى بتدريب وانضباط جيدين، أما الآن فإنها منذ ستين إلى ثمانين عاماً مضت صارت مضرباً للمثل في التسيب حتى لم يبق شيء من مجدها الغابر، فأعضاء الانكشارية الآن هم من الصنايعية والمزارعين وأحدهما أجهل من الآخر وأقل انصياعاً".

وحول علاقة الانكشارية بالوالي يقول فولني: "عندما يحاول الباشا تجاوزهم أو تجاهلهم فإنهم أول من يتمردون عليه، مؤخراً قاموا بطرد والي حلب عبدي باشا، فما كان من الباب العالي إلا أن أرسل والياً آخر. إنهم يثأرون بخنق كل من يعارضهم أو يتمرد عليهم، ولكن في أول فرصة يجعلون عليهم قادة جدداً وهكذا تتابع الأمور سيرها على هذا المنوال".

ويضيف أن "الباشاوات الذين كانوا دائماً يخشون معارضة الانكشارية المحلية، أو تمردها عليهم صاروا يعتمدون على فرق جديدة من الانكشارية الأغراب الذين ليس لهم في البلد أهل أو عائلة أو أصدقاء، وهؤلاء الجنود على نوعين، الفرسان، والمشاة، أما الفرسان فهم الذين يمكن اعتبارهم رجال حرب ويسمون (الدالاتية) أو (اللاوند) ونطلق عليهم نحن اسم (ليفنتي) أي الشرقيون".

ويشرح قائلاً حول انتماء هؤلاء اللاوند: "جميعهم ابتدأوا بمهنة واحدة، وعندما بدأوا يعملون في المهنة الثانية لم يتغيروا، إن أغلب الفرسان اللاوند في سورية هم من التركمان والأكراد والقرمان الذين بعد أن مارسوا مهنة اللصوصية في بلادهم جاؤوا يطلبون الحماية في ظلال الباشوات ويقدمون لهم خدماتهم.. في مجمل أرجاء الإمبراطورية، هذه الفرقة كانت تتكون من قطاع الطرق الذين ينتقلون من مكان لآخر، وبسبب عدم الانضباط فإنهم يحتفظون بتربيتهم الأولى وعاداتهم، فهم يشكلون البلاء الأعظم على الأرياف، وعلى الفلاحين الذين (يشلحونهم) في وضح النهار ".

أما الجنود المشاة فيقدم حولهم معلومات تبدو غريبة، فبعد أن كانوا في السابق من أهل البلد، أصبحوا منذ نصف قرن تقريباً (1730) يتكونون من الفلاحين القادمين من ممالك تونس والجزائر والمغرب، حيث يأتي هؤلاء إلى مصر وسورية للبحث عما لا يمكن لهم الحصول عليه في بلادهم (الوجاهة)، بحسب تعبيره، ويقول إنهم معروفون في سورية باسم "المغاربة" ويشكلون بطانة الباشا وحرسه الخاص.


ويضيف القول: "ولو نظرنا إلى الأمر لوجدناه عجباً، فبطانة الأتراك في سورية ومصر هم من المغاربة، وبطانة المغاربة في بلادهم من الأتراك!".

ويضيف أن هذه الوحدات يتم تقسيمها على النظام التتري القديم، أي نظام البيارق، حيث كل بيرق ينضوي تحته عشر أفراد، ولكن من النادر أن نجد التزاما بهذا التقسيم، والسبب أن الآغاوات (قادة العشرات) مجبرون على دفع رواتب من هم تحت إمرتهم، ولأن الآغاوات يفضلون الاستئثار لأنفسهم بمرتبات جندهم فإنهم يغضون الطرف عن أعمال فرض الخاوات والسلب والنهب التي يمارسها هؤلاء الجنود".

ويعلق حول هذه الحالة قائلاً: "بهذه الفوضى العارمة لنظام الإدارة، فإن جميع ولايات الإمبراطورية أصبحت في حالة إفلاس، بالنسبة لولاية حلب على وجه الخصوص والتي كانت تضم حسب تسجيلات الدفتر (السجلات) ثلاثة آلاف ومئتي قرية، فإنها اليوم لا تكاد تضم سوى أربعمئة قرية؟!".

ويقول معللاً مظاهر خراب الريف الحلبي: "تُجارنا الذين صار لهم عشرين سنة في هذه المدينة شاهدوا بأنفسهم كيف أن أغلب ضواحي حلب بدأت تفرغ من سكانها، أما الرحالة فإنهم يتحدثون عن منازل مهدمة، خزانات ماء مدمرة، حقول مهجورة تركها الفلاحون وذهبوا إلى المدينة حيث ذابوا بين سكانها ولم يعودوا فلاحين!".


أجمل مدن سورية

يقدم فولني شرحاً حول مدينة حلب عاصمة الولاية، ومقر الباشا، فيقول إنها "تقع في وسط السهل العظيم الممتد من العاصي إلى الفرات. ويقول إن "أرض حلب خصبة وغنية ويمر فيها نهير صغير عذب الماء، لا ينضب، وينبع من جبال عينتاب وينتهي جنوب حلب في سبخة مليئة بالخنازير البرية وطيور البجع، عندما يقترب النهر من حلب فإن ضفتيه – بدل الصخور الجرداء التي تسيطر على القسم الأعلى منه – تكتسي بتربة خصبة مزروعة بحدائق الفاكهة المتنوعة التي تعتبر هنا من لذائذ الحياة ".

وحول المدينة يقول إنها، أي حلب، "في حد ذاتها تعتبر من أجمل مدن سورية، وعلى الأغلب هي أيضا الأكثر نظافة وتنظيماً في مجمل أنحاء الإمبراطورية العثمانية. من أي جهة أتيتها حشد مآذنها وقبابها شديدة البياض - على خلفية السهل ذي اللون البني الرتيب - تخطف الأبصار، وفي الوسط ما يشبه التل تتوجه قلعة خربة، من هنا من فوق القلعة يمكن أن نلقي نظرة شاملة على المدينة، نرى في الشمال جبل بيلان الثلجي البياض، في الغرب السلسلة الجبلية التي تفصل حوض نهر العاصي عن البحر، أما في الشرق والجنوب فيمتد النظر حتى الفرات".

ويضيف: "مرة قامت هذه القلعة بصد الغزاة لعدة شهور ولم تسقط إلا عن طريق الخيانة، أما اليوم فإنها لا تصمد لضربة كف، جدرانها نحيلة، مهترئة، وبلا دعامات، أما أبراجها القديمة فهي ليست بأحسن حالاً، بالكاد يوجد أربعة مدافع صالحة للاستعمال، عدا عن قاذفة بطول تسع أقدام، وهي التي كانت قذائفها تنهمر على رؤوس الفرس في حصار البصرة حوالي عام 1743".

وحول القلعة يقول: "فيما مضى كانت مزودة بقناة ماء تجري تحت الأرض وتجلب لها الماء العذب من ينبوع على مسافة عدة مراحل. محيط المدينة مزروع بأحجار كبيرة مربعة على شكل عمامة من حجر وهذه هي الأشكال المميزة للقبور، الأرض مرتفعة قليلاً وهذا في حالات الحصار يجعل التقدم والاقتراب سهلاً جداً، وبعدها نرى قبور الدراويش حيث التحكم في قناة الماء".


ملتقى للتجارة

يشير إلى أن "حلب، من الناحية العسكرية مدينة لا يعتدّ بأمرها، مع العلم أنها مفتاح سورية الشمالي، ولكن كمدينة تجارية فلها أهمية كبرى في المنطقة، فهي مستودع لكل أرمينية وديار بكر، وترسل القوافل إلى بغداد، ولها صلات مع فارس والهند عن طريق ميناء البصرة، ومع مصر ومكة عن طريق دمشق، ومع أوروبا عن طريق إسكندرونة واللاذقية، وتجارتها تعتمد في الغالب الأعم على التبادل".

ويضيف أن "المواد الأساسية في تجارة حلب هي: القطن، في حالتيه الطبيعية أو النسيج، حيث يتم نسجه في القرى، أما في المدينة فنجد مناسج الحرير، والنحاس، والصوف، ونسيجاً من شعر الماعز الأضني، والبندق الكردستاني، وبضائع الهند مثل (الشالات)، والموسلين، وأخيراً فستق حلب المحلي، أما من أوروبا فتستورد: المناشف والنيلة والسكر وبعض أنواع البهارات، ومن أميركا تستورد القهوة رغم منع استيرادها بشكل رسمي لمنافستها (الموكا - البن اليمني) وعملياً فإن استيرادها يتم لغرض خلطها مع القهوة العربية".

وحول القنصليات الأجنبية يقول فولني إن الفرنسيين يمتلكون في حلب قنصلية وسبع شركات، والإنكليز والبنادقة لهم شركتان، واللوفرنيون والهولنديون شركة واحدة. ويشير إلى أن الإمبراطور الفرنسي حين قام بافتتاح قنصلية حلب في عام 1784 انتدب لها أحد التجار اليهود الأغنياء فكان هذا الأخير مضطراً لأن يحلق لحيته لكي يستلم الرداء الرسمي ويتقلد السيف، وقد قام الروس مؤخراً بافتتاح قنصلية لهم في حلب".

يقول حول مساحة حلب إنه لا يتفوق عليها في الاتساع سوى القسطنطينية والقاهرة وربما إزمير إلى حد ما، ويضيف أن عدد سكانها يبلغ حوالي 200 ألف نسمة. ويلفت النظر إلى أن "السكان المسلمين والمسيحيين في حلب يعتبرون من الأكثر تحضراً في مجمل الإمبراطورية العثمانية، وأن التجار الأوروبيين لا يتمتعون في أي مكان آخر سوى في حلب بهذه الحرية والاحترام من الناس".

ويشير إلى أن "الهواء في حلب جاف جداً ونشط، ومع ذلك فهو صحي جداً ومفيد لمن لم يكن لديه صدر ضعيف، ومع هذا فإن المدينة وضواحيها كانت ضحية لوباء يسمى القوباء أو (الحبة الحلبية)، وهي تبدأ ببثور ملتهبة في منطقة الوجه، ثم تتحول إلى قرح بحجم الظفر، وتمتد مدة هذه البثور في حالة التقرح إلى ما يقارب العام، وتترك بعدها آثاراً لا تمحى في الوجه، وهي من العلامات الفارقة في وجوه سكان حلب".


الحمام الزاجل

بعد ذلك يتحدّث فولني عن حمام حلب الزاجل الذي يستخدم في البريد والنقل الجوي لبغداد وإسكندرونة، ويقول: "هذه ليست أسطورة ولكن توقف العمل بها منذ ثلاثين إلى أربعين عاماً، لأن اللصوص الأكراد صاروا يقتنصون هذه الحمائم. ويشرح الطريقة الحلبية في استخدام الحمام كما يلي:

"ما إن يقوم زوج من الحمام بالتفريخ حتى يرفعا عن صغارهما وينقلا على ظهر حصان إلى المكان المراد مع مراعاة عدم تغطية الأقفاص لترك حرية النظر للطيور، وعند الوصول إلى المكان المطلوب يتم ربط ورقة على ساق الحمامة وإطلاقها، فيقوم هذا الحمام المتشوق إلى صغاره بالطيران بأقصى سرعة ليعود إلى عشه، فيصل في ظرف عشر ساعات من إسكندرونة إلى حلب، ومن بغداد إلى حلب في يومين فقط، وهكذا فطريق العودة يكون سهلاً له لأن حلب تُرى من مسافات بعيدة، أما في الشكل فشكل حمام حلب لا يختلف كثيراً عن أنواع الحمام المعروفة إلا أن فتحتي الأنف اللتين بدلاً من أن تكونا ملساوين ومتحدتين فإنهما منتفختان ومنفصلتان".


وصف أنطاكيا وإسكندرونة

يصف فولني المدينة الثانية في ولاية حلب وهي أنطاكية، إذ يقول: "هذه المدينة كانت مشهورة بفخامتها وغنى أهلها، أما اليوم فهي ليست أكثر من قرية كبيرة مهجورة بيوتها من طين وتبن، دروبها ضيقة موحلة تجعل الأمر حفلاً للبؤس والفوضى، تنتشر بيوتها على الضفة الجنوبية لنهر العاصي، في نهاية جسر متهالك، وهي محمية من الجنوب بجبل متصل بالسور قديم، المسافة بين المدينة الحالية والجبل تقريبا مئتا (سقف) وهذه المسافة مزروعة بالحدائق والركام غير المفيد".

ويضيف: "رغم خشونة سكان أنطاكية فإنها كانت ذات يوم أكثر نظافة من حلب وكانت تعتبر مستودعاً لبضائع الأوروبيين، عندما تقطع مصب العاصي، الذي يقع إلى الأسفل قليلاً فإننا نستطيع أن نصعد في النهر بواسطة مراكب مزودة بمجاديف وليس بواسطة مراكب شراعية كما يقول الرحالة بوكوك، مجرى النهر سريع جداً، السكان المحليون الذين لا يعرفون اسم الأرنط الذي نطلقه على النهر؛ يسمونه العاصي، أي المتمرد، وعرض مجراه في أنطاكية يصل إلى أربعين قدماً".

يتابع "قبل المصب بسبع مراحل يمر النهر في بحيرة غنية جداً بالأسماك وخاصة الأسماك الثعبانية، في كل سنة يتم تمليح أعداد كبيرة منها ومع ذلك فهذه الكميات الكبيرة من الأسماك المملحة لا تكفي الاستهلاك الكبير في عيد فصح اللاتين، فيما عدا هذا لا شيء في أنطاكيا، لا خشب الدفنى، ولا المشاهد الحسية التي كانت مسرحاً لها فيما مضى، ومع هذا فسهل أنطاكية يضم تربة غاية في الجودة والخصب إلا أنه مهمل ومتروك للرعاة التركمان، بينما الجبال المحيطة بمجرى النهر مغطاة بالبساتين من تين وزيتون وكرمة وتوت، ومن الغريب - وهو شيء نادر في الإمبراطورية - أن الأشجار المثمرة مزروعة بترتيب خماسي، حتى إن هذا المنظر الرائع يضاهي أجمل بساتيننا".

وحول مدينة إسكندرونة يقول: "هذه المدينة القائمة على شاطئ البحر هي في الحقيقة ليست أكثر من قرية كبيرة بدون أسوار تحميها، يوجد فيها من القبور أكثر مما فيها من البيوت، ويعيش أهلها بفضل المرسى العميق للسفن، وهو على ما يقال فإن أرضيته هي الأكثر صلابة من بين جميع مراسي سورية، ويمسك مرساة السفينة بصلابة دون الاضطرار إلى قطع الكوابل، وهذا المرسى مع ذلك فيه مجموعة من الصعاب التي يجب معرفتها وإلا أصبح استعماله خطراً".

ثم يقول إن "الطريق من إسكندرونة إلى حلب مليء باللصوص الأكراد الذين يكمنون في الصخور على جانبي الطريق والذين يسطون بقوة السلاح على أعتى القوافل".

بعد ذلك يتحدث عن "فساد هواء إسكندرونة إلى درجة غير عادية، ونستطيع أن نؤكد أن هذا الهواء يحصد في كل سنة ثلث أرواح طواقم السفن القادمة إلى إسكندرونة، بل رأينا بعض السفن التي أرست لشهرين فقط وقد قُضي بالكامل على طاقمها، والهواء لا يفسد على مدار العام، ولكن هذه الآفة تمتد من شهر أيار إلى نهاية أيلول، وأعراضها حمى متقطعة عنيفة جداً، وبتهتك في الكبد ينتهي بداء الاستسقاء، وهناك أيضاً مدن عكا وطرابلس ولارنكا تتعرض لهذه الآفة وإن بشكل أقل من إسكندرونة".

ويضيف شارحاً: "في كل هذه الأماكن نجد نفس الشروط المحلية لانتقال العدوى، المياه الراكدة، الأبخرة النتنة، هي الأسباب الحقيقية لهذه الآفة، وحتى نستكمل كلامنا عن هذه الآفة نقول إنها لم تظهر في السنوات التي سقط فيها المطر، وللأسف فإن إسكندرونة محكومة بطبيعتها، فالسهل حيث تقوم هذه المدينة منخفض جداً ومسطح جداً حتى إن الجداول لا تجري فيه وبالكاد تصل إلى البحر".

يكمل "وفي الشتاء عندما تمتلئ هذه الجداول وتصل إلى البحر يكون البحر بدوره مرتفع الموج فيمنعها من تفريغ مائها فيه فتجبر على التدفق في السهل مكونة مئات البرك الصغيرة، وفي الصيف يفسد الهواء بسبب حرارة الشمس وينطلق بخار فاسد من المياه الآسنة للبرك، ولا تستطيع هذه الأبخرة أن تندثر في الهواء أو تبتعد عن المدينة بسبب الجبال المحيطة بها بشكل تام".

المساهمون