حامد السعدي: لكل مقامٍ مقام

23 ابريل 2019
(حامد السعدي، الأول من اليسار، مع "فرقة الجالغي البغدادي")
+ الخط -

لم تكن رحلة عاديةً تلك التي قطعها حامد السعدي مع المقام العراقي من بغداد إلى نيويورك التي انتقل للإقامة فيها قبل ستة أشهر. فمنذ قدومه، لا يكاد يمر أسبوع دون أن يُقدّم حفلاً في المدينة وضواحيها أو في مدن أميركية أخرى.

تجمع حفلاته مزيجاً من المهاجرين وأبنائهم المتعطّشين لسماع تراث عربي أصيل، ومن الأميركيّين القادمين من خلفيات متعدّدة، كما في الحفل الذي قدّمه، مؤخّراً، في إحدى قاعات "مركز لينكولن" الشهير؛ حيثُ تجاوب الجمهور معه والفرقة المصاحبة بالتصفيق، بينما كانت ترتفع آهات بين مقطعٍ وآخر بدت وكأنها تتحسّر على ذكريات العراق البعيد.

يُعدّ السعدي (بغداد، 1958) أحد أبرز قرّاء المقام العراقي، لكنه ليس مجرّد قارئ للمقام؛ فهو أيضاً خبير في ذاكرة بلده الفنية التي يحفظ جزءاً كبيراً منها، ساعده في ذلك صوتٌ مميّز وذاكرة قوية في مجاله، إذ يحفظ جميع المقامات العراقية الستة والخمسين.

يروي السعدي لـ"العربي الجديد" رحلته الطويلة مع المقام العراقي، والتي بدأت في ريعان شبابه، متحدّثاً عن شغفه بالتراث البغدادي وولعه بالشعر العربي، وكيف كان يتفاعل معه، وكان يتقمّص شخصية فارسٍ يمتطي جواده ويُشهر سيفه في ساحة المعركة حين كان مدرّس اللغة العربية يطلب منه إلقاء قصيدة للمتنبي أو أبي فراس الحمداني. يقول إن تلك الأجواء جعلته يتعلّق بالمقام العراقي الذي وجد فيه كلّ المعاني التي يُحبّها.

يُشير السعدي إلى أن المقام كان يُقرأ في حلبات "الزورخانة" التي تُمارَس فيها رياضة كمال الأجسام؛ حيث ينشد القارئ قصائد مقاماتٍ يتدرّب عليها الرياضيون: "كانت هذه الرياضة تُمارَس على وقع قراءة المقامات، فيرافقُ القارئَ "مرشدٌ" يحمل طنبوراً (طبل كبير) ينقر نقرات إيقاعية تُحمّس المتدرّبين كنوعٍ من الإحماء، ثمّ يتصاعد الأداء الفني وحماس الرياضيّين بشكل متناغم"، مضيفاً أن هذه الأجواء عدّلت شخصيته وجعلته يُعجب بفن المقام.

أمّا الانتقال من الإعجاب بهذا الفن إلى ممارسته ثمّ احترافه، فبدأ - كما يضيف - بمشاهدته حفلاً على شاشة التلفزيون ليوسف عمر (1918 - 1986) الذي يُعدّ من روّاد المقام العراقي في العصر الحديث، وأصبح لاحقاً أحد أساتذته. ومنذ تلك اللحظة، أخذ الشاب يدوّن في دفترٍ صغير جميع الحركات من الصعود إلى النزول وحتى "الآه" و"الأمان"، قبل أن يبدأ في التردّد على محلّ للأشرطة الموسيقية، ليتعلّم عن طريق الاستماع إلى ما فيه من تسجيلات لبعض روّاد المقام. يوضح هنا: "كنتُ أركّز على الصياغة النغمية، وليس تقليد الصوت كما يفعل كثير من المغنّين".

يتحدّث السعدي عن تاريخ المقام العراقي، قائلاً: "هناك مدارس عديدة وأبرزها مدرستان ظهرتا في العراق بداية القرن العشرين: مدرسة الأستاذ رشيد القندرجي (1886 - 1945)، ومدرسة الأستاذ محمد القبانجي (1889 - 1988). مثّلت الأولى التيار التقليدي المحافظ على الأصول القديمة، بينما استطاعت الثانية أن تُجدّد وتبتكر وتستمر".

يضيف: "أحدث القبانجي نقلة في المقام العراقي لناحية اختيار الشعر؛ إذ أدخل نصوصاً جديدة ومفهومة، مقارنةً بمدرسة القندرجي التي لم تكن لديها نصوص شعرية جديدة. وإلى جانب ذلك، أضاف القبانجي إلى عائلة المقامات أكثر من عشرة مقامات كانت منسيةً أو غير معروفة، أو كانت مجرّد قطع صغيرة. كلُّ ذلك يُضاف إليه امتلاكه صوتاً استثنائياً وتطويره للأغنية العراقية التي نسمّيها البستة؛ إذ أدّى الكثير من البستات بكلام واضح ومفهوم".

من تلاميذ هذه المدرسة يوسف عمر وناظم الغزالي وعبد الرحمن خضر، إلى جانب أسماء بارزة أخرى في المقام العراقي. يقول السعدي: "أمّا نحن، فنمثّل الجيل الذي خلف جيل تلك المدرسة الكبيرة، وهذا يُفسّر تأثّري وتعلّقي بيوسف عمر الذي أعتبره أفضل من قرأ المقام في القرن العشرين".

عن سبب إطلاق تسمية قارئ المقام بدلاً من مغنّ أو مؤدٍّ، يوضّح السعدي: "تُطلق هذه التسمية لأن القارئ يستطيع أن يغنّي المقام مع التخت الموسيقي، وأن يقرأه مع الأداءات الدينية، وأن يقرأ القرآن أيضاً؛ فقراءة القرآن العراقية تعتمد على المقامات العراقية بشكل أساسي، كما أن الأداءات الدينية الأخرى كالمنقبة النبوية أو الذكر الصوفي تعتمد، أيضاً، على منهج من المقامات؛ فكل محفل ذكر له مقامات وأناشيد خاصة ملحنة ضمن فصول مرتّبة بشكل مدروس".

يؤكّد السعدي أنه لم يدرس المقامات بالمعنى التقليدي على يد الأساتذة، بل تعلّمها عن طريق السمع، متحدّثاً عن دور "المقهى البغدادي" في شارع أبي نواس ببغداد في ذلك: "كان الأستاذ يوسف عمر يُشرف على قراءتي للمقام في المقهى الذي كنّا نذهب إليه كلّ جمعة... يسمع ما أؤدّيه. ويعطيني بعض الملاحظات التي أفادتني في مسيرتي. كذلك، التقيت بالأستاذ محمد القبانجي الذي صرت أزوره في بيته وكان أيضاً يقدّم لي بعض النصائح".

ويبدو أن نصائح المعلّمين وجدت آذاناً صاغية بالفعل؛ إذ سيعترف كلٌّ منهما بموهبة القارئ الشاب، فيقول القبانجي: "أعتمد على السعدي وأعتبره أفضل حلقة لتواصل المقامات في سلسلة المراحل الزمنية"، ويقول عمر: "حامد السعدي خليفتي من بعدي". وعن أجواء "المقهى البغدادي"، يقول السعدي: "كان مليئاً بالروّاد ومحبّي التراث. كلّ جمعة، يأتي القرّاء مع الموسيقيّين ونؤدّي مقامات معيّنة، وتدور نقاشات ثرية يحضرها مهتمّون وخبراء في المقام... كانت الأجواء بغدادية صرفة، وكان تفاعل الجمهور كبيراً".

وإلى جانب "المقهى البغدادي"، يذكر المتحدّث فضاءً آخر هو محلّ تسجيلات اسمه "أنغام التراث"، قائلاً إنه كان، أيضاً، مجلساً تُدار فيه النقاشات حول المقامات والأداءات الدينية، وكان يرتاده مقرئو القرآن والمنقبة النبوية، مضيفاً: "هذه كلّها كانت روافد مهمّة لزيادة ثقافتي وخبرتي في المقام، وليس الأداء فحسب. ساعدني ذلك في أن أكون أصغر قارئ وخبير في المقام العراقي، إذ لم أتجاوز الرابعة والعشرين من العمر حين ختمت المقامات العراقية جميعها".

بعد انتقاله للعيش في بريطانيا سنة 1999، ألّف السعدي كتاباً بعنوان "المقام وبحور الأنغام: دراسة تحليلية لغناء المقامات العراقية مع نصوصها الشعرية" صدر عام 2006. وعن تلك التجربة يقول: "انتهزتُ فترة وجودي في لندن، حيث كانت عندي فسحة من الوقت، وبدأت بجمع كل قصاصات الورق والدفاتر الصغيرة التي كنتُ أسجّل فيها كل شاردة وواردة عن المقام والقصائد لأنجز هذا الكتاب".

أمّا انتقاله، مؤخّراً، إلى نيويورك، فيرافقه عددٌ من المشاريع المتعلّقة بموسيقى المقام. ويوضح أن "الهدف ليس إقامة حفلات ومحاضرات فقط، إذ أعمل مع الموسيقي العراقي أمير الصفار على إقامة مؤسّسة تُعنى بالحفاظ على المقام العراقي الذي أُهمل في بلده من قبل الدولة والمؤسسات، ولم يعد يحظى باهتمام إلّا على مستوى الجهود الفردية، كما أنّ قرّاءه في العراق باتوا يعانون من التهميش وعدم الاهتمام، رغم أنّ عددهم قليل بالنظر إلى أن قسماً كبيراً منهم يعيش خارج البلاد".

يستطرد السعدي في حديثه عن واقع المقام العراقي وقرّائه اليوم، قائلاً: "ليس خافياً أنّ الذوق العام اختلف في بغداد... كان الناس في أيامنا والأيام التي سبقتنا يسمعون الشعر والمقامات ويعرفون تفاصيلها. أمّا الآن، فقلّة فقط تكترث بسماع قصيدة معينة أو مقام كامل. أصبح القرّاء يكتفون بغناء أجزاء من المقام والتركيز على الأغنية، أي البستة، وهذا أدى إلى نسيان وضياع المقامات. وليس صدفةً أن تَعتبر منظمة اليونيسكو، قبل سنوات، المقام العراقي من الفنون الإنسانية المهدّدة بالزوال. في الوقت نفسه، أقول إن المقام لا يزول ما دام القرآن يُتلى بأنغامه وكذلك الأداءات الدينية".

وعن تفاصيل المشروع الذي يعمل عليه حالياً، يقول: "خلال وجودي في نيويورك، تتلمذَت على يدي قارئتان، فنادر أن تؤدّي المرأة المقام العراقي. من خلال إنشاء مؤسّسة المقام العراقي، نحاول أن نستقطب أكبر عدد ممكن من الشباب لتعلّم المقامات وأيضاً العزف على الآلات التقليدية مثل السنطور والجوزة. أمّا المشروع الآخر، فيتمثّل في توثيق المقامات، بما أنني الوحيد الذي يحفظ جميع المقامات، أداءً وشرحاً إضافة إلى حفظي المخزون والتسجيلات القديمة. هناك كثير من الأشياء التي نُسيت منذ أكثر من خمسين عاماً، ومن بينها تسجيلات قديمة لموسيقيين من الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، وجزءٌ من عملنا سيتمثّل في تسجيلها بطريقتها التقليدية بهدف الحفاظ عليها من الضياع".

أمّا عن أي المقامات تُعدّ الأحب إليه، فيقول: "المقامات مثل الورود: كل وردة لها لون ورائحة خاصة. أحب كلّ المقامات، ولكن المزاج والحالة النفسية يلعبان دوراً في تفضيلي مقاماً على آخر؛ فإذا كانت ثمة حالة حزن مثلاً، فمقام المنصوري أو اللامي أو الحويزاوي، وفي حالة الفرح الراشدي وأورفة. هناك مقامات تحتاج للفخامة والوقار مثل مقام النوى والبيات. كلّ مقام له تأثيره الخاص على النفس البشرية".

يختم حامد السعدي حديثه لـ"العربي الجديد" بالقول إنه يشعر بوجود اهتمام أكبر بالمقام لدى الجيل الجديد: "خلال حفلاتي، يأتي الكثير من الشباب الذي يرغب في الاستماع والمعرفة. لكنني أتمنّى أن تكون الصحوة أكبر، وأن يستفيق الجمهور العربي من الفقاعات والغناء السريع والكلمات الهابطة ويعود إلى الغناء الأصيل والنغم المطرب والكلم المؤثّر".

دلالات
المساهمون