الحُزن حالةٌ إنسانية؛ فهو يتسرّب إلى الذات، وقد يترسّب فيها، مثلما قد يتسلّل إلى إبداعات البشر، فيَطبَعها بمسوح تتلوّن بين الغمّ والأسى والكآبة والألم، وغيرها. ويتّخذ الحزن تجلّيات أوضح في النصوص الأدبية لامتزاجه بها، ولالتحامهما الشديد، مما يُصعّب رسم الحدود بينهما.
ويبدو أنّ الحزن سكن الوعيَ البشري منذ مرحلته الأسطوريَّة؛ فقد استعرض شارْل لُوبْلان في كتابه "هرمس: نظرات فلسفية في الترجمة" الحكايةَ المصوغة عن إله المترجِمين هِرْمِس من قبل هوميروس في سرد شيق، يُبرز فيه الحزنَ الذي كابده هذا الإله، نتيجة اضطراره إلى النزول إلى الأرض والاتصال بالبشر، عقاباً له على طمعه في "أكثر من حصتِه [...] حصةِ الآخر"، بحيث ظلّ مشوَّش الذهن ومهموماً، بعدما حكم عليه الإله زيُّوس بالعمل وسيطاً بين الآلهة والناس أي مترجماً، فشرع يتساءل: "أَلمْ يُخْفِ زَيُّوس الحياةَ عنّي، وتركني نَهْبَ الهموم الحزينة، عندما جعل مني رسولاً؟ أمْ أنّني أستطيع أنْ أتمرَّد بإبراز نفسي وراء كلمات الآخرين؟".
وفْق الأسطورة، أدْرَك هرمس أنّ الحُزن قرينُ الترجمة في الوجود، فكلاهما ظهر في وقت واحد، وانتبه إلى أنّ الهَمّ لصيقٌ بمهمته، فمزاولتُه الترجمة جعلتْه غير راض كلّ الرضى عمّا أُوكل إليه، لطمعه في مهمة أفضل، عِوَض الاكتفاء بالوساطة وإيصال الرسائل؛ من جهة، ولإحساسه بإمكان أن تُصيِّرَه الترجمةُ غُفْلاً متوارياً خَلفَ كلمات غَيْرِه، بينما كان طموحه دوماً أنْ يحضر في الحياة بقوّة بين الآلهة والبشر، بل أنْ يصيرَ "إلهاً بالكامل" خالداً.
ولا يقتصرُ حضُورُ الحزن في الترجمة على عالم الأسطورة وحدَه، فقد التفت الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، في مقدّمة كتابه "لن تتكلم لغتي"، إلى خاصية الأسى التي تطبع كتابةَ المنفلوطي، إلى درجة تُسوِّغ الحديث عن "شعرية الحزن" لدى هذا الكاتب، والتي يُمكن تبيُّنُها ليس في الحكايات التي ترجمها وحدَها، بل في عناوين كُتُبِه أيضاً، والتي طُبِعت بهذه اللمحة. لقد أكَّد كيليطو أنه يكفي النظر إلى تلك الكتب لنجد عنواناً مثل "العَبرات"، فنتأكّد مما ذهبَ إليه.
ويبدو أنّ الحزن في الترجمة ليس أصلُه دوماً النصَّ الأصلَ في الصورة التي وضَعه (أنْجبَه عليها أي جاء به إلى الوجود) مؤلِّفُه فقط، وليسَ المزاجُ الذي يطبع المترجِمَ الذي قد يكون سوداوياً أيضاً، فالفيلسوف الألماني والتر بنيامين انتبه إلى أنّ تخلُّقَ النصّ سواء عند كاتبِه أو عند مُعيد كتابتِه، أي المترجِم، يعيش مخاض الولادة العسيرة، ذلك أنّه "مثلما تتغيَّر نبرة الأعمال الأدبية الكبرى ومعناها كلّياً بتعاقب القرون، كذلك تتطوّر لغةُ المترجِمِ الأُمُّ (...) تكون الترجمة أبعد ما تكون عن أن تغدو معادلة صارمة للُغتيْن مَيِّتتيْن، إذ مهما كان الشَّكلُ المُتبنّى، فإنّ عليها أنْ تُجرِّبَ بطريقة خاصة نُضجَ الكلمة الأجنبية، مُتّبِعة آلامَ الوِلادة في اللغة الخاصّة".
والحقيقة هي أنّ الحزن ميزة تطبع الكتابة عند المنفلوطي، وأتذكَّر أنني في طفولتي كنتُ وأفراداً من عائلتي من ضمن المتحلِّقين، مساءً، حول إحدى قريباتي، التي كانت تقرأ علينا مترْجَمات المنفلوطي بالخصوص، لكونها كانت تدرس في الثانوية، وأتذكَّر تلك الدموع المتدفّقة من العيون على الخدود، وتشوُّقَنا إلى متابعة تلك القراءة في ليالي الصيف، قبل أنْ يَشغَل التلفاز ذلك الحيِّز من عُمرنا وخيالنا. وهي تجربة عرفَها كثيرٌ من أبناء جيلي.
ولكي نبقى مع المنفلوطي حامل لواء الحزن بين المترجمين، أتساءل إن كان فائض الحزن في نصوصه يعود إلى كونه كان يُترجمِها عن اللهجة المصرية إلى العربية عبر وسيط آخَر، ومن ثَمَّ كان يُعاني آلامَ الولادةِ ضعف ما كان يُعانيه المترجِمون الذين يتعاملون مع النصوص في أصلها دون واسطة؟