العلاقة بين البناء العظيم والسلطة علاقة قديمة قِدم التاريخ. فنحن نبدأ التأريخ عموماً مع ظهور الأوابد الهائلة التي ميّزت الحضارات المنظّمة التي نمت على ضفاف الأنهر الكبرى في مصر وبلاد الرافدين والصين والهند. ولما جاء المسلمون إلى هذه البلاد، استمر حكّامهم في تمويل عظيم البناء، إدراكاً منهم لأهميته في حفظ ذكراهم، كما قال ناصر بني أمية مباهياً بمبانيه العظيمة في مدينة الزهراء بالأندلس: "هِمَمُ الملوك إذا أرادوا ذِكرها من بعدهم فبألسنِ البنيانِ/ إنّ البناءَ إذا تعاظَمَ شأنُه أضحى يَدلُّ على عظيم الشانِ".
ونحن اليوم نفخر بمباني الأندلس وإسطنبول وأصفهان ودلهي والقاهرة وغيرها، كنماذج معمارية متميزة، ودلائل على عظمة الحضارة الإسلامية. ولكن بعضنا يدرك حجم الإنفاق الضخم والجهد الإنساني الهائل الذي استلزمه إنشاؤها، بل إن بعضنا القليل يستكثر هذا الإنفاق وأحياناً يستهجنه ويرفضه، حتى أن عدداً من المفكّرين والمشرّعين حرّموا الإنفاق الزائد على البناء ونسبوا هذا التحريم إلى حديث نبوي صعب التثبّت منه.
ولكن ميل الحكّام للبناء العظيم بقي مستمرّاً. وما زال حكام اليوم الأقوياء، ربما أكثر من أي وقت مضى، يخلّدون ذكراهم بالبناء العظيم ويعلّلون ذلك بتوفير الخدمات المجتمعية أو الدينية أو برفع مستوى الفخر بالوطن بين مواطنيهم أو أي من المبرّرات الأخرى. وهم يقلّلون في الآن نفسه من أهمية الغرور والإحساس بالعظمة كأسباب لجنوحهم لتمويل المباني الهائلة التي تفتقر أحياناً لمبرّرات لوجودها خارج عظمتها الطاغية أو غرابتها أو علوّ كلفتها وبذخ مكوّناتها.
ما لا ننتبه إليه في هذا النقاش النظري عموماً هو المنفعة المادية المباشرة المتأتّية عن عظيم البنيان. وأنا هنا لا أتكلّم عن المنفعة العامّة الناتجة عن الخدمات التي يقدّمها البناء ولكن المنفعة الخاصة التي تذهب إلى جيوب المتربّحين من البناء وكلفة إقامته وتشغيله. فكلّنا مدرك ولا شك بأن المصروف الكبير يتيح المجال لتجاوزات مالية أكثر، وأن الرشى وتبادل المنافع واستغلال السلطة منتشرة بشكل حاد في كل مكان.
وهذه كلّها عوامل مؤثّرة في تآكل تمويل المشاريع المعمارية الكبيرة (والصغيرة)، والذي يذهب قسم كبير منه إلى جيوب المموّلين وزبائنهم، ممّا يتسبّب إما بعدم استكمال المشاريع كما كان مخططاً لها أو بزيادة ميزانيتها على حساب بنود أخرى، أو أحياناً على حساب لقمة المواطن عندما تُفرَض عليه ضريبة إنهاء المشاريع المجنونة التي انغمس فيها حكّامه. فانتشار الفساد اليوم أضحى واحداً من أهم أسباب التخبّط الاقتصادي الذي تعاني منه الدول بعمومها، وخصوصاً الدول التي تفتقد إلى آليات مؤسّساتية للمراقبة والمحاسبة والجزاء كدولنا العربية عموماً، ودول النفط الغنية منها خصوصاً.
هذا التلاعب ليس جديداً. ففي تاريخنا نماذج عديدة للتربّح من وراء المشاريع العظيمة، حتى عندما كان الحكام مطلَقو السلطة ويمسكون بكل مصادر الدخل في سَلْطَناتهم أو إماراتهم. بل إن واحداً من أعقد أساليب التربح التي مارستها سلالة متميزة من حكّام المسلمين، المماليك، أنتجت ما يمكن اعتباره بحق أهم نهضة معمارية في القاهرة. فالمدينة تدين بالكثير لسلاطينها المماليك وأمرائهم وبعض أكابر موظفيهم الذين قادوا نشاطاً عمرانياً ومعمارياً هائلاً فيها خلال القرون الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. والمدارس والجوامع والخانقات التي أسّسوها (حوالي 3000 على مدى 267 سنة)، ثبّتت شهرة القاهرة كعاصمة للإسلام بلا منازع طيلة الفترة القروسطية المتأخّرة.
وقد تقاطر إلى المدينة آلاف من طلاب العلم (وبعض من طالباته) من كل بقعة في العالم الإسلامي، وانتسبوا للدراسة في مدارسها أو تنطّحوا للتدريس فيها تسبقهم سمعتهم التي أسسوها في بلاد نشأتهم. وهكذا أصبحت القاهرة كعبة العلم أيضاً، كما لاحظ ابن خلدون، الذي كان أيضاً من أبرز من اجتذبتهم المدينة إلى معاهدها واحتضنتهم حتى رحيلهم فيها.
اعتمدت هذه النهضة على الأوقاف. فالوقف، تلك المؤسسة الأساسية في التاريخ الإسلامي، ساهمت بشكل فعّال في تطوُّر الأطر القانونية للمنح والهبات والتكافل والدعم الاجتماعي. أمّن هذا النظام الإسلامي السند التمويلي الرئيس والمستدام لكل المنشآت المعمارية الهائلة التي أقامها المماليك. فعبره كان يمكنهم وقف العقارات المدرّة للدخل والأراضي الزراعية المنتجة، بسلطة شرعية لا تسمح بأي تبديل أو تحويل لإرادة الواقف، لبناء المؤسسات الموقوفة وتوظيف العاملين فيها والمحافظة عليها وصيانتها ودعم نشاطاتها. وقد ساهمت دراسات الوقف في الفترة الأخيرة في إغناء معلوماتنا التاريخية إغناءً كبيراً، خاصة في ما يتعلّق بالعمارة والعمران بسبب ما تحويه الأوقاف من توصيف دقيق للمباني الداخلة ضمن الوقف، يشمل بالإضافة إلى تحديد موقعها وصفاً مفصّلاً لترتيبها المعماري يتبَع عادةً حركة الواصف داخلها.
بالإضافة إلى ذلك، وفّرت وثائق الأوقاف تقديراً دقيقاً لكلفة المباني الموقوفة ومصاريف صيانتها وأجور العاملين بها والمستفيدين منها والقائمين على خدمتها. ثم أدرجت تعداداً تفصيلياً للحصص الموقوفة من أراض وعقارات وغيرها يتضمّن موقعها ومساحتها ووظائفها والدخل المنتظر منها وتكاليف صيانتها.
ولكن الوقف لعب دوراً مهماً للمماليك بتمكينهم من التصرُّف ببعض من الثروة التي منحها إياهم الإقطاع المقدَّم لهم من الدولة كجزاء على خدماتهم. فالنظام المملوكي كان مبنياً على إقطاع الجيل الواحد، أي أنّ السلطان أو الأمير يفقد إقطاعه عند فقدانه لوظيفته ولا يحق له التصرف فيه بعد ذلك أبداً. والإقطاع المملوكي أيضاً، على عكس نظيره الأوروبي، لا يورث، فأبناء السلطان أو الأمير لا يمكنهم التصرف في إقطاع أبيهم بعد وفاته، ويعود الإقطاع بمجمله إلى الدولة لكي تتصرف فيه.
والاستثناء الوحيد، شرعاً، لهذه القاعدة هو الوقف الخيري، الذي يعلو على قواعد نظام الإقطاع بأنه يسمح للمُقطع بوقف جزء من إقطاعه في سبيل الخير بحيث لا يمكن للدولة استعادته. هذا ما فعله كل الواقفين المماليك من السلطان إلى أصغر أمير، فهم قد استخدموا جزءاً من إقطاعهم لتمويل أوقافهم الخيرية من مساجد ومدارس وخانقات وتُرَب وغيرها.
ولكن كارل بتري، الأستاذ في جامعة نورثويسترن في شيكاغو، لاحظ أن الإقطاع المملوكي الخيري قد أمّن، على ما يبدو، نافذة للمُقطع لكي يتصرّف ببعض من إقطاعه في تأمين نفسه أو أفراد أسرته. فهو قد درس مجموعة كبيرة من الأوقاف المملوكية، ولاحظ فرقاً كبيراً بين الدخل والمصروف، تجاوز أحياناً الخمسين بالمائة لصالح الدخل. أي أن الأوقاف التي أسّسها المماليك كانت تدرّ أكثر بكثير من المصروفات المتعلقة بها وبوظائفها، ما دفع بتري للاستنتاج بأن الأوقاف قد لعبت دوراً في تدوير بعض الثروة المتاحة من خلال إقطاع الجيل الواحد وتحويلها لمصلحة المقطع وعائلته بما أن المشرف على الوقف في الغالبية العظمى من الحالات هو الواقف نفسه خلال حياته ثم الأكبر من أبنائه بعد مماته ثم الأصغر فالأصغر.
هذه الحيلة الضرورية للالتفاف على نظام لم يسمح بتمرير الثروة للورثة ربما كانت واحدة من أهم أسباب كثرة المؤسسات الخيرية الموقوفة في عهد المماليك بشكل خاص في القاهرة.
لم يعد هناك مماليك ولا إقطاع ولا وقف اليوم. ولكن تعظيم البناء والتربح منه في آن واحد ما زال ديدن العديد من الحكام. وعليه فالسلسلة التي ربطت بين البناء ووظيفته الاجتماعية وعظمة شأن الباني والمنفعة المادية المستترة للباني ما زالت فاعلة وإن بأشكال أخرى ووفق أساليب مختلفة ربما تطلبت مرور زمن كافٍ لكشفها، وإن كنّا نأمل آلا يكون هذا الزمن بطول خمسة قرون.
* مؤرخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا