خلال إحياء ذكرى اغتياله العشرين، في 25 حزيران/ يونيو الماضي، بدا واضحاً إصرار السلطة في الجزائر على تغيير مقولاتها عن المطرب والمناضل الأمازيغي معطوب الونّاس (1956 ـ 1998)، الذي لطالما وُصف بـ"المتمرّد"، وهذه العبارة هي، أيضاً، عنوان كتابه السيَري الذي أصدره عام 1995، وروى فيه محطّاتٍ من حياته الشخصية ورؤاه حول الفنّ والسياسة بشكلٍ عام، والقضيّة الأمازيغية بشكلٍ خاصّ.
ضمن برنامج التظاهرة الاستعادية، التي أُقيمت في عددٍ من مدن وقرى محافظة تيزي وزّو، شرقَي الجزائر العاصمة، عُرض، لأوّل مرّة، تسجيلٌ لحفلٍ قدّمه معطوب في قاعة "زينيت" الباريسية منتَصف التسعينيّات، بعد أشهر قليلة من إطلاق سراحه من قِبل مجموعةٍ مُسلّحة اختطفته عام 1994.
بُثّ التسجيل على شاشة كبيرةٍ، في حفلٍ أَشرف عليه "الديوان الوطني للثقافة والإعلام"، وهو مؤسّسة تابعة لوزارة الثقافة الجزائرية، سبق أن حاولت ترميم الشريط. غير أن الحضور الرسمي في المناسبة لم يقتصر على "لمسة" هذه المؤسّسة التي تنشط في مجال الحفلات الموسيقية؛ إذ زار وزير الثقافة، عز الدين ميهوبي، قبر الفنّان الراحل في قرية ثاوريرث موسى والتقى والدته وشقيقته التي كشفت عن رغبة "مؤسّسة معطوب الونّاس" في إنجاز مُتحفٍ يحمل اسمه.
وعلى حسابه في فيسبوك، وصف ميهوبي المغنّيَ والشاعرَ الأمازيغي بـ"الشهيد"، مُضيفاً أن معطوب "كان واضحاً في مواقفه، وصريحاً في آرائه، ومؤمِناً بالديمقراطية، وظلّ راسخاً في نضاله من أجل الهويّة والثقافة واللغة الأمازيغية". ولم يُفوّت الوزير المناسبة من دون أن يتحدّث عن الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة في السنوات الأخيرة في مجال الهويّة الأمازيغية؛ مثل اعتبار الأمازيغية لغةً وطنية ورسمية، وإنشاء أكاديمية خاصّة بها، والاعتراف بالثاني عشر من كانون الثاني/ يناير (رأس السنة الأمازيغية) عيداً وطنياً.
تُذكّر هذه النغمة بتصريحاتٍ للوزير الأوّل (رئيس الوزراء) الجزائري، أحمد أويحيى، أدلى بها في كانون الثاني/ يناير الماضي، ودان فيها "بأثرٍ رجعي" منعَ الروائي والأنثروبولوجي مولود معمري (1917 - 1989)، من إلقاء "مجرّد محاضرةٍ في جامعة تيزي وزّو" في نيسان/ إبريل 1980، مُعتبراً ذلك "خطأ سياسيّاً".
أدّى منعُ المحاضرة، التي كانت ستتناول "الشعر الأمازيغي القديم"، إلى اندلاع ما سيُعرف لاحقاً بـ"الربيع الأمازيغي"، والذي سيُصبح معمري (ولاحقاً معطوب) أبرز أيقوناته.
لم يكن التوظيف السياسي خافياً في حديث أويحيى الذي بدا أنه لم يرجع قرابة أربعين عاماً إلى الوراء لـ"ينبش" في القضيّة سوى ليُخبرنا بأن الرئيس الحالي، عبد العزيز بوتفليقة، كان "ضدّ القمع والمنع" اللذين تعرّض لهما مَن وصفه الوزير الأوّل بـ"الأستاذ والأديب"، رغم أن فترة رئاسة بوتفليقة نفسه، والتي تقارب العشرين عاماً، كانت حافلةً بحالات مماثلة؛ ففي العام الماضي لوحده، جرى منعُ العشرات من المحاضرات الثقافية التي كانت ستتناول مواضيع متعلّقةً بالأمازيغية.
لا يُمكن قراءة التصريحَين بمعزلٍ عن سعي السلطة إلى احتواء عددٍ من رموز الحركة الأمازيغية الذين كانت إلى وقتٍ غير بعيد تعتبرهم ألدّ خصومها، وجعلِهم جزءاً من منظومتها. ويحدث بعد رحليهم وفي هيئة رد اعتبار.
هكذا خُصّصت لصاحب "الربوة المنسية"، مولود معمري، تظاهرةٌ ثقافية "متواضعة" نُظّمت على مدار العام الماضي احتفاءً بـ مئوية ميلاده. وقبل أيّام، أعلنت وزارة الثقافة أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، وافق على طلبٍ من رئيسة مؤسّسة "معطوب الونّاس" بتمويل متحفٍ خاصّ بالإرث الثقافي والفنّي للفنّان في قرية ثاوريرث موسى في آيت حمّود، جنوب تيزي وزّو، قالت إن من شأنه أن "يُحافظ على ذاكرة معطوب الونّاس الذي ساهم في الارتقاء بالأغنية والموسيقى الجزائرية في بُعدها الأمازيغي وتعزيز الهوية الوطنية".
اعتبرت مليكة معطوب، في تصريحات صحافية، القرار "مكسباً كبيراً واعترافاً بنضال ومسار معطوب، ودعماً للثقافة والحفاظ على الذاكرة ورموزها وصنّاعها".
بحسب معطوب، فإن المؤسّسة عملت على المشروع منذ اثني عشر عاماً، وتقدّمت إلى وزارة الثقافة بطلب اعتمادٍ (ترخيص) في 2012، استناداً إلى قانون الجمعيات، مُرفِقةً طلبها بمخطّط تهيئة وإنجاز وطلب تخصيص قطعة أرض أمام المنزلي العائلي، مضيفةً أن إنجاز المتحف سيتحقّق في غضون فترة لا تتجاوز سنةً واحدة.
أمّا الأمين العام لـ"جبهة التحرير الوطني"، وهو الحزب الحاكم في الجزائر، جمال ولد عبّاس، فاعتبر أن "قرار الرئيس تمويل متحف يُخلّد ذكرى مناضل كبير ووطني حتى النخاع يندرج ضمن ميثاق المصالحة الوطنية"، ويهدف إلى "قطع الطريق أمام الأطراف التي تريد استغلال اسمه لأغراض سياسية وشخصية".
المؤكّد أن من بين هذه "الأطراف" التي لم يسمّها ولد عبّاس "حركة الاستقلال الذاتي" في منطقة القبائل (الماك) التي يتزعّمها المغنّي والمعارض الإشكالي المقيم في باريس والمعروف بمواقفه المتطرفة فرحات مهني، وأيضاً "بقايا" الحركة الثقافية الأمازيغية التي تتمسّك بالإبقاء على مسافة من السلطة.
لكن، لماذا تلجأ "مؤسّسة معطوب الونّاس" إلى المؤسّسة الرسمية لطلب تمويل متحفٍ يُخلّد تراث مغنّ ملتزم عُرف بمواقفه المؤيّدة للديمقراطية وحقوق الإنسان والمناهضة للسلطة؟ سؤالٌ كان يجب توجيهه إلى مليكة معطوب التي حاولنا الاتّصال بها أكثر من مرّة من دون أن نتمكّن من التواصل معها.
طرحنا السؤال بصيغة عكسية على الباحث في الثقافة الأمازيغية، محمد أرزقي فرّاد: لماذا تتبنّى السلطةُ متحفاً يُخلّد تراث رجلٍ كانت تعتبره خصماً ويتّهمها بعضهم بالضلوع في تصفيته؟ يجيب بالقول: "إن متابعةً بسيطةً لتاريخ الجزائر المعاصر تُؤكّد أن منطقة القبائل (الأمازيغ) هي الوحيدة القادرة على إزعاج منظومة الحكم وتغيير موازين القوى. والسلطة تُدرك ذلك جيّداً، لذلك تسعى إلى ترضيتها بطرقها المعروفة".
يَعتبر صاحب "معالم الأغنية القبائلية" أن "الهدف من تمويل المتحف ليس ردّ الاعتبار إلى رموز الثقافة الأمازيغية، بل خدمة حسابات سياسيّة معيّنة"، مضيفاً: "لو كانت ثمّة رغبةٌ حقيقيّة لخدمة الثقافة واللغة الأمازيغيّتَين، لجرت الاستعانة بالخبراء والباحثين الأكاديميّين، بدل اتّخاذ خطواتٍ سياسية أكثر منها ثقافية".
أمّا الناشط في الثقافة الأمازيغية، حميد بوحبيب، فكان له رأي آخر، إذ كتب ردّاً على منتقدي عائلة معطوب الوناس، قائلاً إن إعادة الاعتبار للرموز الأمازيغية يجب أن تكون محلّ ترحيب، حتّى وإن كنّا نختلف مع النظام، مضيفاً أنه لا يُمكن رفض ترسيم الأمازيغية، مثلاً، بحجّة أنها تمّت من طرف رئيس أطلق رجاله الرصاص على الشباب في الربيع الأسود.