الحصان وتمزيق الخادمة: عن فظاعة موروثنا الحكائي الشعبي

14 ابريل 2018
مقطع من عمل لـ سبهان آدم/سورية
+ الخط -

في نهاية إحدى الحكايات الشعبية الجزائرية، يسأل الفتيان السبعة شقيقتهم الصغرى: "ماذا يُشفي غليلك؟"، فتقترحُ عقاباً شنيعاً في حقّ الخادمة الشرّيرة التي احتالت على الفتيان وانتحلت شخصيّة الأخت لتنعم بميزاتها، بينما أُرسلت الأخت الحقيقية لترعى الدواب.

تُربَط الخادمة إلى حصانٍ يجرّها حتّى الموت. وفي رواية أُخرى، تكتفي الشابّة المسكينة بطلبٍ بسيط: ذبحُ الخادمة ووضع رأسها إلى جانب أحجار الكانون.

تنتهي الحكاية هنا. لكنها تستمرّ في نسخةٍ أُخرى؛ حيثُ يعود الإخوة إلى بيت العائلة، الذي غادروه قبل سنواتٍ، ويقتلون زوجة أبيهم (الشرّيرة طبعاً) شرّ قتلة. وفي نسخةٍ أُخرى، تظهر شرّيراتٌ أخريات؛ هنّ زوجاتُ الإخوة اللواتي يحسدن بطلة الحكاية الطيّبة فيكِدن لها.

لا تُقدّم لنا الحكاية الشعبية الجزائرية وصفاً فيزيائياً لبطلاتها؛ فلا نعرف، مثلاً، إن كُنّ بارعات الحسن مثل سندريلا أو بياض الثلج. فقط، نكتفي بتوقُّع ذلك. غير أنها تُقرّبنا من طبيعة بنياتهن النفسية والعقلية؛ بحيثُ نكتشف أنهن لسن، أبداً، في طيبة ورقّة سندريلا وبياض الثلج، أو غيرهما من بطلات الأخويَن غريم.

إذن، ما هو العقاب الأنسب للزوجات اللواتي دفعن الشابّة الساذجة إلى التهام بيضة ثعبان من دون مضغها، ثمّ اتّهمنَها بفساد أخلاقها، بعد أن فقست البيضةُ في بطنها الذي راح ينتفخ كلّما كبر الثعبان؟ يُضرِم الإخوة ناراً في حفرة كبيرة ويُلقون زوجاتهم داخلها، وهن على قيد الحياة. لا تصرخُ البطلة رافضةً هذا العقاب غير الإنساني، لا تستجدي إخوتها للتراجع، لا تُشهِر شعارات المحبّة والتسامح والعفو عن المقدرة. كلّ القرارات الفظيعة تُنفَّذ تحت رعايتها ومباركتها.


■ ■ ■


في صباي، شُغفت بحكايات جدّتي، والتي لم يخلُ بعضُها من قيمٍ إنسانية واجتماعية وتربوية. لاحقاً، تساءلتُ إن كان مردّ ذلك الشغف إلى جمالية وتماسُك بنية النصوص في حدّ ذاتها، أم أن الأمر مرتبطٌ بسياق اجتماعي/ عاطفي خاصّ؟

لنلاحِظ أن معظَم نهايات الحكايات تُتوّجُ بجرعةٍ مركّزةٍ من العنف واللاتسامح. في نهاية حكاية "بقرة ليتامى" الأشهر في الموروث الحكائي الجزائري، على سبيل المثال، تطلب البطلةُ من أخيها تعذيب ابنة زوجة أبيهما بتقييدها داخل بئر، ثمّ يُرسلان ثيابها الملطّخةً بالدماء إلى أمّها.

إضافة إلى حضور العنف الجسدي والمعنوي الطاغي وغياب التسامح، يكاد المنطق الروائي يكون الغائب الأكبر في الحكاية الشعبية الجزائرية.

في الحكاية الأولى، تُحرَق زوجات الإخوة وتنجو واحدةٌ فقط؛ هي زوجة الأخ الأصغر. لماذا؟ لأن الأخير تعاطَف مع شقيقته وصدّق براءتها. لا تُكلّف الحكاية عناء البحث عن تبريرٍ درامي لاستثناء زوجته من العقاب، فتكتفي بإخبارنا بأنها كانت غائبة، صدفةً، ذلك اليوم.

وفي بداية القصّة، يُغادِر الأولاد السبعة منزلهم بعد ولادة أختهم إلى بلدةٍ بعيدة. يُغادرون ببساطةٍ ويختفون لسنواتٍ طويلة، ولا يُكلّفون أنفسهم عناء السؤال عن أمّهم حتّى.


■ ■ ■


كيف تعامَل البحثُ العلمي مع الحكاية الشعبية؟

في حدود اطّلاعي، تكادُ مقاربة البحث الأكاديمي الجزائري مع الفولكلور الحكائي تكون شبيهةً بمقاربة النصّ الديني؛ لجهة اعتباره نصّاً متعالياً يسمو على النقد. وفي أحسن الأحوال، لا يخرُج الأمر عن جمع المادّة وتوثيقها، وإسقاط بعض المناهج البحثية عليها.

تعمد معظم النصوص إلى استعراض حكايةٍ ما، والبحث عن مدى تضمّنها خصائص الحكاية الشعبية كما حدّدها فلاديمير بروب، من دون تقديم رؤية أو مقولة مفيدة.


■ ■ ■


في السنة الجامعية الثالثة، درستُ مادّة "الأدب الشعبي" عند أُستاذ كان مقتّراً في منح العلامات؛ حيثُ يشكّل رقم 2 أفضلها، كأنه يُدرّس مادّة علميةً بالغة الدقّة (لنلاحظ هنا النزوع حول تعقيد الأمر وتنفير الطلبة من المادّة). أذكُر أنني عبّرتُ له عن عدم اقتناعي بمنطق حكايةٍ شعبية جزائرية تقول إن رجلاً أحضر طيوراً إلى البيت فاشتهتها زوجته، فطبختها والتهمتها. وخوفاً من غضبه، عمدت إلى ذبح ابنَيها وطبخهما وتقديم لحمهما له في العشاء.

فضلاً عن بشاعة الجريمة، بدا لي أن سلوك المرأة غير مبرَّر بالمرّة. "هل تخشى الزوجة أن يُعاقبها زوجها لأنها أكلت الطيور ولا تخاف من عقابه لأنها ذبحت ابنيه؟ ثمّ هل يُعقَل، أصلاً، أن تُقدِم امرأة سويّة على ذبح أبنائها؟ ما هذا المنطق؟".

سألتُ الأستاذ الذي أجابني، قائلاً: "عليك أن تفهم بأن الأدب لا يستند إلى المنطق". رأيتُ الإعجاب في عيون الطلبة بأستاذهم، وقرّرتُ ألّا أُجادله بأن للأدب منطقه أيضاً.


■ ■ ■


أيمكن أن نختلف على أن أدبنا الشعبي بحاجةٍ إلى مراجعةٍ قيمية وإعادة صياغة جمالية شاملة؟


* روائي وصحافي من الجزائر

دلالات
المساهمون