نوري الجراح.. وقت شعري للتراجيديا السورية

27 مارس 2018
("طابور البحث عن المطلق" للنحّات السوري عاصم الباشا)
+ الخط -

بدا الأمر وكأن خصاماً حاداً بين  قصيدة النثر - كشكل شعري حُسم أمر مشروعيته - مع النقد الأكاديمي الذي بقي معتصماً في كهفه. ظلّت الجامعة متأخرة نصف قرن على الأقل عن تطورات القصيدة العربية، واكتفت بـ"الروّاد" وغضت الطرف عن تجارب أساسية تشق مسارات القصيدة العربية الآن. ومن هذا المنظور تبدو محاولة أيمن باي (يصدر كتابه الشهر المقبل ننشر منه اليوم مقتطفين) مع تجربة نوري الجرّاح الشعرية تحليقاً خارج السرب، وإن متأخراً.

■ ■ ■


دراسة حضورِ الدراميّ في قصيدة نثر أمر جديد، نستطيع من خلاله أن نتبيّن طبيعة هذا الحضور في آخر ما توصّل إليه الشعر الحديث - أي قصيدة النثر، في محاولة للوقوف على العناصر الدرامية المهيمنة في "الأيام السبعة للوقت" وهي: الصراع، المشهد الدرامي، القناع، الحوار الداخلي، تعدد الأصوات، التقنيات السينمائية.

تحتوي "الأيام السبعة للوقت" على جملة من العناصر الدرامية المختلفة، التي تجمع بين العناصر التي أصبحت اليوم بفضل تراكم التجربة الشعرية عناصر درامية ضرورية في كل قصيدة تنزع إلى الدرامي، ولعلّه من الضروري أن نخوض في أهم عنصر من العناصر الدرامية في "الأيام السبعة للوقت" وهو الصراع.

تقوم البنية الدرامية في "الأيام السبعة للوقت" على نوعين من الصراع، صراع داخلي وصراع خارجي. الأول هو صراع نفسي بالأساس، ولعلّه أهم ما يميّز "الأيام السبعة للوقت"، ليس لأنه الأساس الذي عليه انبنى الحدث الدرامي فحسب، بل لأنه استراتيجية اعتمدها الشاعر لبناء عناصره الدرامية الأخرى.

إنّ الصراع الداخلي في "الأيام السبعة للوقت" هو الذي ينزّل فنيّاً وعي الشاعر بقضايا وطنه ومدى لوعته من الأحداث الراهنة في سورية، بل إنّ الشاعر يجعل من نفسه مذنباً ومسؤولاً عمّا يحدث في بلاده. وهو على هذا الأساس لا يعبّر عن الواقع فحسب، بل يجعل من نفسه موضوعاً مضاداً يصارعه أيضاً، "إذ الصراع الداخلي ينجم عن انقسام الذات الإنسانية إلى ذاتين متضادتين متصارعتين، بحيث يصبح الإنسان الواحد هو البطل والبطل المضاد" في وقت واحد، كما يرى مصطفى عبد الغني في "المسرح الشعري العربي"، وقد تجسّد ذلك كثيراً في "الأيام السبعة للوقت"، وكانت المطوّلة من أوّلها إلى آخرها صراعاً نفسيّاً، بين الذّات العميقة لنوري الجرّاح (المقنّعة) ونوري الجراح الشاعر، ويظهر ذلك واضحاً في قوله:

"دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيّها الشاعر؟
عمياء قصيدتك
وصوتك أعمى"

يتضمّن هذا الشاهد دلالياً اتهاماً من الذات العميقة إلى ذات الشاعر، ومساءلة لها وتحميلها مسؤولية الأحداث الحاصلة في سورية، واعتبارها أنّ قصيدته عمياء لم تجد نفعاً ولم تؤثر في الواقع. ويتخذ هذا الصراع منحى تنازلياً، إذ بعد أن تتهم الذات الشاعر وتحمّله المسؤولية، نجدها تبحث له عن مبرّر، فتخرج الشاعر من الاتهام، فيتخذ الصراع منحى تنازلياً، كما هو في المقطع الشعري الذي يردد اللازمة:

"دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيّها الشاعر؟
عمياء قصيدتك
وصوتك أعمى
لكن الهواء يهدهد السّهل والعشب يهمس للقتيل".

يبرز الاستدراك بـ لكنّ تخفيفاً من مساءلة ذات الشاعر له من خلال إبراز الوجه الآخر للمأساة الذي يتخطّى حدود إمكانات الشاعر، وذلك عبر إبراز مشهد حركي تتوالى فيه عناصر الطبيعة لتعبّر عن قسوة المشهد المأساوي، إذ ليس للشاعر ذنب أو قدرة على تغيير الواقع. وعلى هذا الأساس اتخذ الصراع النفسي إيقاعاً جدلياً، تصاعدياً – تنازلياً:

"لكن الهواء يهدهد السهل
والعشب يهمس للقتيل
دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيّها الشاعر؟
عمياء قصيدتك
وصوتك أعمى"

يبدو الإيقاع الداخلي في "الأيام السبعة للوقت" إذن إيقاعاً حركياً درامياً. يتردد نسقياً بين الارتفاع والانخفاض. وهو ما يعمق حركية القصيدة ويزيد البعد الدرامي فيها. غير أنّ الصراع الداخلي هنا لا يتخذ ذلك الشكل على كامل مدار القصيدة، بل نجد هذا الصراع في كثير من الأحيان يظهر من خلال المحاورة الداخلية بين الذات المقنّعة وذات نوري الجرّاح الشاعر، ومن ذلك قوله:

"دم من هذا الذي لطّخ يديك وكلماتك أيّها الأعمى؟
أنا لا أكتب قصيدة لكنني أشمّ القميص لأبصر"

نجد في هذا الشاهد حواراً داخلياً بين أنا القناع التي تتولّى الكلام وأنا الشاعر التي يتوجه إليها الخطاب، وهو حوار في شكل مساءلة وجواب، اتهام من معاتِب وتبرير من معاتَب يقوم على اعتبار الكتابة طقساً عميقاً لاسترجاع البصر من ظلام الحرب والموت. وفي ذلك تناص ديني مع قصة النبي يعقوب الذي اشتم قميص ابنه يوسف فرجع إليه البصر.

إنّ هذه المحاورة بين أنا القناع وأنا الشاعر تحيل إلى أنّ الصراع الداخلي الذي يعيشه الجرّاح يعكس شعوراً حاداً بالمسؤولية تجاه ما يحصل وعجزاً ممضاً لم يجد معه الشاعر سبيلاً لإنقاذ البلاد من الحرب الناشبة بين النظام والمعارضة وهو الصراع الخارجي الذي عبّر عنه الجرّاح في "الأيام السبعة للوقت".

يدور موضوع الخطاب الشعري في قصيدة "الأيام السبعة للوقت" حول الصراع العسكري السوري بين فرقتين، في سورية ومن سورية، النظام والمعارضة السوريين، وعلى أساس هذا الصراع المتداخل مع الصراع النفسي انبنى الحدث الدرامي وتطوّر بتوالي سرد مشاهد الحرب، إذ إن كل المطولة عبارة عن تتالي مشاهد هذا الصراع بين القوّتين المنتسبتين إلى مكان واحد وإلى ثقافة واحدة، الأمر الذي جعل هذه الحرب تدور بين شقيقين كما أشار إلى ذلك الجرّاح من خلال تجسيده لهذا الصراع مستلهماً قصة قابيل وهابيل في أكثر من موضع في القصيدة، ومن ذلك قوله:

"في الحقل صرخت فيك، ونظرنا الأيام تبدّل ثيابها
والزمن يتسرب من الأيدي
في الحقل صرخت فيك وفي الجبل صرخت
وفي المدينة لما نزلنا
عيناك رأيتهما زائغتين
ها إنّ يدك التي كبرت واخشوشنت
تتلطخ بدمي".

إنّ الصراع الخارجي في "الأيام السبعة للوقت" إذن يقوم على متضادين سياسياً ممّا أدّى إلى صراع عبّر عنه الجرّاح شعرياً عبر متواليات من المشاهد. وهو صراع متعدد الأبعاد، ومن بين أبعاده، المظاهرات التي يقوم بها الشعب السوري كل يوم جمعة ضد النظام، من ذلك قول الشاعر:

"في هذه الجمعة وفي كلّ جمعة حتّى صارت الأيام السبعة للوقت
درجات في التراب ودرجات في الهواء
حصّة الشهداء من الشهادة
لا أحد غيرك"

يحيل هذا المقطع الشعري إلى زمن انطلاق المظاهرات الشعبية وهو يوم الجمعة، وقد أخذت هذه المظاهرات تتكرر في الزمن نفسه حتى أضحت المظاهرات الحدث الأيقونة في كل جمعة، غير أنّ هذا الصراع الخارجي ما فتئ يشتد من مظاهرات وقتل أبرياء إلى الاعتداء العنيف في صور مأساوية قاسية، ومن ذلك:

"اللصوص أضرموا النّار في بيت أبي
اللصوص سرقوا وجنة أختي ويدي أخي
اللصوص قتلوا أبقاري وقادوا حميري إلى بركة الدّم
اللصوص انتهبوا قمر الصّيف
وفؤاد المسافر
اللصوص ربطوا الأخوات الصغيرات بأمراس الحقل
وكسروا على حجر البئر جمجمة المراهق"

ليس أدلّ من هذا المقطع الشعري على قسوة الصراع الذي يدور في سورية، والذي ذهب ضحيته الأبرياء من الشعب، فاللصوص هم القتلة الذين انتهبوا حرمات البيوت ونكّلوا بالشعب، في صورة من صور الصراع المأساوي التي أخذت تزيد حدّة ويزيد الحدث الدرامي معها نموّاً.

يبدو الصراع إذن واضحاً في "الأيام السبعة للوقت" وهو صراع داخلي (نفسي) وصراع خارجي ينصهران في بعضهما البعض في جوّ حركي درامي ساهم في نموّ الحدث الذي هو مجموعة من المشاهد القاسية للحرب. غير أنّ بنية القصيدة الدرامية لم تتشكل وتنمو عن طريق الصراع فحسب بل نجد إلى ذلك مجموعة من العناصر الأخرى التي قد لا تقل أهمية عنه. ومن ذلك، المشهد الدّرامي.

تتألف "الأيام السبعة للوقت" من مجموعة من المشاهد الدرامية المتتالية، وهي مشاهد مصوّرة تخضع لنظام السيناريو المكوّن من لوحات بصرية تعبّر جميعها عن موضوع واحد، وهو الحرب في سورية. إذ تتوزّع القصيدة على مجموعة من المقاطع المكثفة والصور الاستعارية، فالمشاهد الدرامية في المطولة تتوزع على ثمانية مقاطع مرقمة، وتجيء هذه المقاطع، وهذه المشاهد، رغم تعلّقها بالواقع المأساوي، في صور موغلة في الإيحاء فلا تنزلق إلى شرك اقتباسه على وجه تقريري أو مباشر أو تسجيلي ومن ذلك هذا المشهد الدّرامي:

"الجنازير الضخمة تترك بصماتها على إسفلت القرى،
المركبات العمياء، ترسل الحمم إلى صور العائلة
الأمهات يهرعن بالصّبية من حائط إلى حائط ويخبّئن العذراء في ركام الستائر
جدران الطين تتهاوى وسنابل الصّيف تتقصّف"

يحيل هذا المشهد على مظاهر العنف والهلع التي سببتها الحرب للإنسان والطبيعة على حدّ سواء، ولكن، رغم ذلك لا يصل مشهد العنف والقتل والاستشهاد اعتماداً على معجم مباشر بل عبر تعويضات دلالية مواربة بالمعنى الأرقى للتعبير، عالية الإيحاء في الآن ذاته، إذ يسعى نوري الجرّاح لأن يحافظ على الرّهان الجمالي للقصيدة وعلى التوهّج الدلالي لها رغم قيمة الحدث الدرامي الذي قد يشدّه إلى التعبير المباشر.

جميع المشاهد الدرامية في القصيدة تتسم ببعد مأساوي واضح من خلال الحدث الدّرامي الذي يركّز على قتل الأبرياء من البسطاء، لكن عندما يقع الحدث أو ينتوي وقوعه بين أقرباء بصلة الدّم، فإنّ ذلك يثير العطف الذي يجب أن يستهدفه الشاعر التراجيدي، على رأي أرسطو في "فن الشعر"، ومن ذلك قول الجرّاح:

"الصور ترتج وتغرب في العين والفتى الذي شقت القيعان طوله.
مستلقياً دامياً ينتظر يد أبيه
الصور تغرب في الصور، ابتسامة من مضى ليقطف التوت في صيف مضى
لكن الخدر يحتضن الفتى، الآن، الخدر، يعيد الفتى الضاحك إلى يد أبيه"

تعمّق العلاقة الدموية بين الأب وابنه في هذه الصورة مأساوية المشهد، وهي غاية يطمح إليها الشاعر الدرامي، أن يقف على أكثر الجزئيات وجعاً في المشهد الدرامي حتى يستعطف القارئ والمتلقي، ويحقق بذلك تفاعلاً درامياً بين الشاعر وهذا القارئ، كما أنّ الأداء في المشهد الدرامي يتّجه دائماً نحو التسارع، تتواتر الأحداث وتتكثف داخل حيّز زمني قصير فتتتالى الحركات تتالياً سريعاً وتحتد اللّهجة وترتفع النبرات الصوتية ويشتد الصخب موحياً بعنف الصراع الدرامي، فتتتالى المشاهد الدرامية في المطولة في نسق تصاعدي من خلال تعمّق الصراع ونموّ الحدث.

تترى المشاهد الدرامية في "الأيام السبعة للوقت" إذن متصاعدة، من التوتر إلى التوتر الأشد ومن الحركة الدرامية العنيفة إلى الحركة الدرامية الأعنف، مصوّرة بأسلوب موجز وموحي، يراهن على الجمالي في الشعر، حدث واحد هو الحرب المأساوية الواقعة في سورية محققة بذلك أهم عناصر الدراما وهو وحدة الحدث. ممّا يجعل من المشهد الدرامي عنصراً درامياً مهمّاً في المطوّلة على غرار أسلوب القناع.


* أكاديمي من تونس

دلالات
المساهمون