محمد الميموني.. القصيدة كنصّ جامع

17 مارس 2018
(محمد الميموني)
+ الخط -

لا تُخلِف زمردة المتوسط؛ مدينةُ المضيق (الرِّينْكُون)، بمينائها الساحر ووداعة جوها، موعدَها الذي عقدته مع الشعر منذ أربع سنوات في "المهرجان المتوسطي للشعر بالمضيق". فبين 16 و18 آذار/ مارس الجاري، تحتضن المدينة الدورة الخامسة للمهرجان بمشاركة عدد من الشعراء الأوروبيين والعرب، فيما تحلّ بَنَما ضيف شرف، كما سيُكرَّم فيها الشاعرُ الراحل محمد الميموني (1936-2017).

حضر محمد الميموني في المشهد الثقافي المغربي بأثر إبداعي وفير كان - دون أدنى شك - مشروطاً إيديولوجياً وجمالياً بالزمان الذي عاشه، الشيء الذي يستدعي النظر إلى رصيده الكتابيّ بصفته تطوُّراً سمتُه الحوار والتفاعل مع ظروفه التاريخية بأحداثها المتنوعة. وبالوُسع مفصلةُ هذا الأثر الغنيّ نفسِه إلى أربعة أنشطة تكاملت في ما بينها: الشعر، والسرد، والنقد، والترجمة.

لكنّ ما لا يخفى عن قُرّاءِ الميموني هو عنايته بالقصيدة، التي كانت رهاناته عليها متعدّدة. فالتأمل في تجربته الشعرية يكشف أن هاجسَه كان البحث عن لغة شعرية تفصح عن قلق جمالي أصيل؛ تَكُون القصيدة بوتقة تنصهر فيها عناصرُ الكتابة كلُّها من صور وحكاية ووزن وإيقاع ونثر ورمز إلخ.. بمعنى أنها تتحوَّل إلى نص جامع، لا يكون الشاعر نفسه مُطالَبًا بأنْ يُصرِّح بأنه يمارس ذلك، ولا أن يكون على وعي به، لأنَّ تلك المهمة موكلةٌ للناقد المَعني بإنطاق الساكت.

ومع ذلك، لن يتردّد المتمرِّس في قراءة الشعر حين طرقه أبواب قصيدة الميموني في الذهاب إلى أن شعره يحمل في أتونه مغامرة ينفصل بها عن مجايليه، وتكون إضافتَه الإبداعية للشعر المغربي، المتمثّلة في إنجازه الإبداعي المتميِّز ضمن جيله الستيني؛ الجيل الذي رافقه في الكتابة الشعرية، وهو الجيل الذي لا نشكُّ في مواصلته تأسيسَ القصيدة الجديدة وفي انتماء تجربته إليها؛ تلك التي كان انطلاقها مع مجلة "المعتمد" و"كتامة" و"الآداب" و"شعر"، وغيرها؛ جيل القصيدة الجديدة التي "هي بهذا المعنى أداة تجربة وأرض خصبة"، كما يصفها إلياس خوري، والتي لا تفتأ تختبر إمكاناتها وتبني بيتها ضمن سيرورة تشكيل القصيدة المغربية، على اعتبار أنَّ الأدب في جوهره بناءٌ وخلقٌ.

لقد راهنت قصيدة الميموني على إخراج قصيدة التفعيلة إلى رحابة النثر، بإدراج عناصر سردية فيها، عَبْر ردم الهوة بين الشعري والسردي، أي عبر الدفع بالمغامرة الشعرية إلى أقاليم الحكاية، حيث الالتفات إلى تفاصيل الحياة اليومية التي دأبت قصيدة التفعيلة على تناسيها، مفرغةً اهتماماتها - في الغالب الأعمّ - في القضايا العامَّة والشمولية.

انطلاقاً من هذا الوعي الضمني يكون لدى الميموني اشتغال خَفِيٌّ على الشكل، نظراً لتحوُّل الشكل إلى نقطة ارتكاز أساسية في القصيدة الجديدة، التي: "أصبح الشكل الجديد - [فيها] حَسب إلياس خوري - هو تاريخ القصيدة، أي أن دراسة الأشكال وتطوَّرها، أصبحَ هو الوسيلة الوحيدة لفهم هذه الحركة الجديدة وتقييمها".

ما لا يخفى هو أن الميموني أغنى القصيدة بإدراج فنيٍّ عالٍ للغة المحكية، وبالحفاظ على الأناقة الفنية للقصيدة، وبضمان جماليتها، لأنَّ "الإنتاج الفني الجميل هو وحده الذي اعْتُبِرَ عملاً فنِّياً بحق، أما الإنتاج الناقص والرديء فهو واقعةٌ تاريخية لا واقعة جمالية".

لكنَّ الأمر لا يتوقَّف هنا، فأصول هذا الرهان مبثوثة في النصوص التي يزخر بها منجزُه الشعريُّ. وأحبُّ أن ألفت الانتباه إلى أن أحد دواوينه الأخيرة، وهو "موشَّحاتُ حزن متفائل" (2008)، الذي يمكن اعتباره تتويجاً لهذا المغامرة، والذي يقدِّم حواراً بين الأنا الشعرية والعالَم، لِما يتَّسم به من درامية عالية، يُحاور فيه الشاعرُ بنفس فلسفي الموتَ مستكنها حقيقتَهُ، وزحفَهُ الذي يترصَّدُ بالكائناتِ جميعها، ويتأمَّلُه، في الوقت ذاته، لِما يُفيدُه التفكير فيه من تفكير ضمني في الحياة.

وإذا كانت هذه القضايا مضمونية، فإنَّ ما هو شكلي في المتن الشعري للراحل محمد الميموني يفسح المجال لتأييد فكرة انهمامِه به، بدءاً من الشعر الجاهلي فالموشّح، الذي يقول عنه الناقد الراحل إحسان عباس "إنَّ الموشَّح هو أوَّلُ ثورة حقَّقها الشعر العربي في إيثار الإيقاع الخفيف الذي يقرب الشقة بين الشعر والنثر". هذا التقريب الذي كان، في تقديري، هاجس الميموني دوماً.

ولعلّ تنصيصَ الميموني على تصنيف "موشَّحاتُ حزن متفائل" ضمن الشعرِ، رسالةٌ حمالة أوجه، أرى من إشاراتها البليغة غير المصرَّح بها أنَّ القصيدة ليس بالضرورة أن تكون انحرافاً عن لغة النثر. القصيدة لدى الميموني لا تحس أيَّ نقص إزاء النثر، فالوشائج بين اللغتين كثيرة، ولا يستدعي الأمر أيَّ عقدة تجنيسية، ذلك أن قصيدة النثر نفسها لا تنفي التحقُّقات الشعرية الأخرى، وذلك ما يؤكِّدُه جان كوهن بقوله: "الواقع أنَّ القصيدة النثرية تحتوي عموماً على سمات دلالية كالتي تستعملها القصيدة المنظومة".

وتؤكد قراءةُ الميموني للشعر الإسباني - وترجمتُه إياه خصوصاً - الذي يستلهم مادته الشعرية والتعبيرية من الأغاني الشعبية، أي استحضاره باستمرار لشعر لوركا، بل وترجمته لديوانه التماريت، إيماناً عميقاً ووعياً منفتحاً يؤمن بأن التخصيب يمرّ، أيضاً، عبر تجربة التثاقف والحوار مع التجارب المتنوعة والمتناقضة أحياناً.

المساهمون