حياة قصة

09 فبراير 2018
ألكسندرا إكستر/ أوكرانيا
+ الخط -

اللافت أن تكون قصة تشيخوف "وفاة موظف" التي يظهر فيها الرجل جباناً وتافهاً قادرة على البقاء والاستمرار في ضمير البشرية طوال أكثر من قرن. ولا يزال من الصعب القول إنها قد تُنسى. ومن غير المتاح التيقن من ذلك. فوجود الشخصية مرتبط بزوال الأسباب التي تفرض الذل والخوف على الناس في حياتهم اليومية.

وفضلاً عن أن وجود مثل هذه القصة قد يكون علامة على طبيعة النظام السياسي المسيطر، فإن سرّ بقائها وانتشارها لا يزال رهن التساؤل: هل نتعاطف مع الموظف تشرفياكوف تعاطفاً وجدانياً يعبّر عن دخائلنا النفسية التي تتسم في هذه الحالة بروح التضامن الثمينة، ونزعم بالتالي أننا لا نشبهه، ولا يمكن أن نفعل مثلما فعل؟ أم نشعر أنه يمثلنا، وأن ما فعله بالاعتذار من الجنرال هو سلوك قد نقدم عليه جميعاً إذا ما شعرنا بالخطر من شخصية عامة نافذة قد نكون أخطأنا بحقها بطريقة ما؟ 

ولكنّ الموت سيبقى أكثر غموضاً من كلّ ما في سلوك الموظف تشيرفياكوف. لم مات؟ ونحن نعلم أن هذا السؤال لن يجد الإجابة أبداً، وسوف يبقى موته سراً غريباً وغير مفهوم في القصة. ولعل عنوانها نفسه سيضفي عليها مثل هذا الغموض. إذ لم يضع تشيخوف لها أي عنوان آخر، بل اختار الموت بالذات كي يضعنا أمام الأسئلة التي لا تنتهي عن بشاعة النظام الاستبدادي ووحشيّته.

وبعض الذين قرؤوا القصة يسخرون من تشرفياكوف، ومن بينهم من يزعمون أن تشيخوف نفسه يسخر من الشخصية، وهذا غير صحيح بالمرة. والمؤكد في نظري أن تشيخوف كان ممتلئاً بالتعاطف والشفقة على أمثال هذا الموظف الذي يجعله نظام الاستبداد هشاً وذليلاً يموت بسبب عطسة في قفا جنرال. والراجح أن الناس العاديين من الذين قرؤوا قصصه عرفوا أن الكاتب لا يسخر منهم البتة، بل يدين أولئك الذين يقهرونهم.

ويحتمل الأمر كثيراً من الجدل، فيما إذا كان مثل هذا الرجل يتحمّل المسؤولية عن إرادته، أو عن المصير الحزين الذي اندفع نحوه. ولكن القصة لا تذهب في اتجاه البحث عن صفات الشخصية وطباعها، بل تسأل، وهي تدفعنا للسؤال، عن المسبّب. أي عن الجهة التي يجب أن تكون هي المسؤولة عما تؤول إليه إرادة وتفكير إنسان برئ يرى في أي مخالفة بسيطة يمكن أن يرتكبها رعباً لا نهائياً قد يتسبّب في موته.

من الصعب أن نعثر على نموذج مثل هذا الموظف الذي توفي لأنه عطس في قفا أحد الجنرالات، ولم يستطع الاعتذار منه كما يرغب، إلا في البلاد التي يحكمها الاستبداد. ففي الديمقراطيات، مُنحت للمواطن مساحة للعيش بعيداً عن مناخ الرعب الذي تعمّمه تلك الأنظمة.

ومع ذلك فإن القصة تعيش كي تذكّر البشر أن بوسع الطغيان أن يشيع مناخ الخوف والذلّ والانصياع والضعة في نفوس الناس العاديين، وهي تقول أيضاً أن نسيان مثل هذه القصة البسيطة يعني أننا قد حققنا حلمنا الطوباوي الذي يعني انتشار العدل والرحمة والاعتزاز بكوننا بشراً عن حق.

دلالات
المساهمون