يذهب البحث حول الفيلسوف والطبيب الأندلسي في أكثر من اتجاه؛ دراسة امتداد فلسفة ابن رشد كما يناقشها الباحث والأكاديمي المغربي فؤاد بن أحمد في كتابه الصادر حديثاً عن "ضفاف" و"الاختلاف" و"الأمان" و"كلمة" بعنوان "ابن طملوس، الفيلسوف والطبيب"، حيث تكشف المراجع في المكتبات الإسبانية اليوم حقائق عديدة؛ من أبرزها المقاربات الرشدية التي حاول بعض تلامذته ومن جاؤوا بعده إخفاء أثرها في كتبهم بعد تعرّض صاحبها لمحنته بسبب آرائه السياسية.
كما تفسّر هذه الوثائق التاريخية اشتباك عشرات الفلاسفة الأندلسيين مع أفكار صاحب "الشروح على كتاب النفس"، فإنها أيضاً تقف عند حياة فكرية وعلمية غنية لم يصل منها سوى القليل، ولا يزال حقل دراستها فقيراً عربياً، مقارنة مع ما يقدّمه مستعربون إسبان من ترجمات وتحقيقات في محاولة منهم للتصالح مع جذر أساسي في حضارتهم متمثّلاً في الأندلس.
أنجز بن أحمد رسالة دكتوراه عام 2008 بعنوان "منزلة التمثيل في فلسفة ابن رشد"، في سياق بحثٍ يناقش تساؤلات أساسية عن منهج وبناء القول الفلسفي الرشدي. وكان لا بد أن ينتهي به هذا البحث إلى أسئلة من قبيل: ماذا بعد رحيل ابن رشد في العالم العربي الإسلامي؟ مشيراً في حديث لـ"العربي الجديد" إلى تفكيكه مقولة رائجة تدّعي بأن "الفلسفة العربية الإسلامية قد انتهت عنده؛ وأنه على عظمة مُنجزه، لم يتمكّن من خلق مدرسة فكرية لنفسه ولم يترك تلامذة خُلّصاً يبلورون فكره".
يرى الباحث المغربي أن هذه الدعوى ظهرت مع كتاب إرنست رينان "ابن رشد والرشدية" أواسط القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من تقادمها، فإنها ما تزال إلى اليوم تُستعاد، بل تستنسخ بطريقة كسولة، أحياناً، من قبل كتابات عربية وغير عربية. لذلك أتى اهتمامه بابن طملوس كجزء من مشروع أكبر يتعلّق بالسعي إلى فهم الحياة الفكرية والثقافية بعد رحيل صاحب "تهافت التهافت"، عن طريق تعقّب أخبار الأعلام والنصوص وتنقلها، بالاعتماد أساساً على أصحاب التراجم والفهارس وعلى المخطوطات.
ابن طملوس لا يمثّل الرشديةَ العربية في مقابل الرشدية اللاتينية، إنما يمثل تلميذاً لابن رشد بالمعنى الأول لهذه المفردة، وفق بن أحمد، الذي يؤكد أن ابن طملوس كانت له شخصيته الفكرية المستقلّة التي لم تستعد توجهات معلّمه، ففضلاً عن أن نصوصه لم تحمل الهواجس التي كانت لدى ابن رشد تجاه علم الكلام مثلاً، فإنه قد ذهب، في مواضع بعينها، في اتجاه بلورة مواقف خارجة عن الخط الرشدي، كتخصيص كتاب "التحليل للنظر في مفهوم الموضع"، وهو مبحث منطقي شغل الفارابي كثيراً من قبل؛ وتخصيص قول للقياس الفقهي في كتاب القياس؛ والدفاع عن القوة القياسية للقياس الشعري.
يلفت بن أحمد إلى أن كتاب ابن طملوس في المنطق يتألف من 172 ورقة لم يحقّق ولم ينشر منه اليوم إلا القليل؛ حتى وإن كان بعض الدارسين قد انتهوا إلى بعض النتائج فإن تلك الاستنتاجات تظلّ جزئية ومقيّدة إلى حد كبير بتلك الأجزاء، وهم مدعوّون إلى مراجعتها في ضوء مجموع الكتاب الذي يناقش أفكار ابن سينا بخصوص بعض المسائل المنطقية، ويستأنف النظر في بعض المسائل الجوهرية التي ظلّت عالقة في نصوص ابن رشد.
ويوضّح المؤلف بأن الدارسين كانوا قد انتهوا إلى أن بعضاً من أجزاء الكتاب تضمّن نوعاً من فك الارتباط بين صناعة الخطابة والسياسة على غرار ما هو عليه الأمر عند أرسطو؛ وتصوّراً تركيبياً لمفهوم القياس الشعري لا يوجد عند سابقيه؛ ودفاعاً عن علمية صناعة الجدل ومنفعته لعلم لكلام.
يبدي صاحب "الفلسفة والفشل عند ابن طفيل" أسفه لتوفّر ثلاثة أعمال لابن طملوس فقط؛ كتابه في المنطق الذي يوجد في نسخة فريدة محفوظة بـ "خزانة الإسكوريال" في مدريد؛ وهو لم ينشر بعد كاملاً، وما نشر منه يحتاج إلى مراجعة يعمل عليها حالياً، كما يوجد "شرح لأرجوزة ابن سينا في الطب"؛ تتوفر منه نسخ عديدة تتيح نقده، وهو مؤلّف يعكس أين وصلت صناعة الطب زمن ابن طملوس الذي عُرف طبيباً للخليفة الناصر، ويُظهر النص العلاقة الودّية التي كانت تجمعه بشيخه ابن رشد.
العمل الثالث هو رسالة منطقية - مفقودة في أصلها العربي - في اختلاط القضايا الوجودية والضرورية، ولا توجد اليوم إلا في ترجمة لاتينية عن الترجمة العبرية المفقودة أيضاً، إضافة إلى بعض الأشعار المنسوبة إليه أوردها هو في كتاباته أو أوردتها كتب السير، أما أعماله الأخرى التي يذكرها في كتبه أو يذكرها أصحاب التراجم، وهي التي ألفها في علوم العربية وفي الطب والمنطق فلا يُعلم عنها شيء اليوم.
يشير بن أحمد إلى أن ابن طملوس يمثل إحدى أبرز الشخصيات في تاريخ "شقر" - مدينة صغيرة شبيهة بالجزيرة قريبة من مدينة بلنسية عاش فيها أيضاً ابن خفاجة والأديب ابن عميرة - وقد صُمّم له تمثال من البرونز في إحدى ساحاتها.
وهنا يقارب صاحب دراسة "ابن طملوس والاستعراب الإسباني" رؤية دارسين إسبان مختصين في الفلسفة الأندلسية مثل جوزيف بويج مونتادا ورامون غريرو ولومبا فوينتس الذين لا ينظرون إلى أعمال ابن باجة وابن رشد بوصفها أعمالاً تنتمي إلى مجال أجنبي بل كأعمال لمفكرين ينتمون، جغرافياً، إلى الفضاء نفسه، الذي يسمى اليوم إسبانيا، والتي شهدت إبان الوجود العربي أنشطة فكرية، كان الفاعلون الأساسيون في القسم الإسلامي فيها هم ابن رشد وابن باجة وابن طفيل وتلامذتهم، مقابل رايمون لول وغيره في القسم المسيحي منها.
تتحلّل هذه النظرة، وفق بن أحمد، من بعض رواسب الحساسيات العقائدية التي كان قد حملها مستعربو نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كـ خوليان ريبرا وأسين بلاسيوس، مع الإقرار بأن تبلور النظرة السائدة اليوم ما كانت لتحصل لولا الازدهار الذي شهده تاريخ الاهتمام بالإرث الأندلسي المكتوب بالعربية.
ويضيف، في سياق الحديث عن نهاية الفلسفة في الأندلس، بأن كمّاً كبيراً من التكهّنات والتخمينات بدأت تسقط أو تتثبّت مع دراسة آثار أندلسية لم تكن متوفرة سابقاً. ويُمكن إحصاء ما يقرب من أربعين تلميذاً مباشراً لابن رشد في كل أصناف المعرفة مثلاً، وتحكي الوثائق أن أعماله الفلسفية كانت من بين ما يُدرّس للنظار في الأندلس لقرون عدة بعد وفاته.
لكن البحث في هذا الباب رهين بتوفر الوثائق والشواهد. فنحن نعلم، مثلاً، أن حازم القرطاجني قد درس نصوص ابن رشد على يد أحد شيوخه، وهو الشّلَوبين، ونتلمس تأثيرا واضحا للمقاربة الرشدية لصناعتَي الخطابة والشعر في "كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء" رغم أنه يتجاهلها تجاهلاً مطلقا وينقلب عليها لصالح ابن سينا. لذلك فإن عدم توفرنا اليوم، على نص لشيخه هذا يبقي عملية انتقال الأفكار من ابن رشد إلى حازم عملية غامضة.
خزائن معتمة
يلفت فؤاد بن أحمد إلى أن آلاف الكتب قد أُتلفت أو ضاعت بعد خروج العرب من الأندلس، وفقدانها يعني بقاء جزء من ذلك العالم معتماً أو مبتوراً في أحسن الأحوال. غير أنه يلفت إلى أن الخزائن الإسبانية لا تزال تحتوي آلاف المراجع، ومنها "خزانة دير الإسكوريال" (شمال غرب مدريد) التي تضم قرابة 2000 كتاب أندلسي، لم يُخرج منها الدارسون سوى القليل إلى الآن.