صيف "بوشهري": جماليات تحت الضجيج السياسي

10 سبتمبر 2016
"المساء"، مي السعد، زيت على قماش
+ الخط -

لقاعة "بوشهري" في الكويت، معرضٌ سنوي ربما يلخّص في الصيف، أو هكذا يخيل إليّ، حصيلة سنة أو سنوات من المعارض التي يقيمها لفنانين تشكيليين يأتون إليه بإيقاعات من بلدان شتّى، عربية وغير عربية، إضافة إلى فنانين كويتيين يشاركون بأعمال تشكيلية وخزف ونحت.

هذا هو الصيف الثامن، الذي يقام فيه معرض جماعي يختتم الموسم التشكيلي للنصف الأول من العام، والذي يتواصل حتى 15 من الشهر الجاري. اجتمعت فيه أعمال تشكيلية ناطقة حقاً بإيقاعات متعدّدة، أي بجغرافيات إنسانية وطبيعية متفرّدة لا تشبه إحداها الأخرى، أو لا تحاكي إحداها ما تراه أو تفكّر فيه وترسمه الأخرى.

نحن هنا أمام عوالم، إن صح التعبير، تشكيلية لغتها من بيئات مختلفة. وهل الفن إلا ناطق أوّل عن بيئة ملموسة غير متخيّلة؟ هنالك أعمالٌ تشذّ عن هذه القاعدة، ولكنها قليلة، كأن تسيطر على مخيلة الفنانة عفيفة اللعيبي من العراق رؤى الفرنسي هنري روسو، الملقب بـ "الجمركي"، فتستوحي أجواء غاباته وحورياته أكثر من مرة.

في حين تهيمن على الفنان عبد الوهاب العوضي من الكويت مساحات السويسري/الألماني بول كلي، وخطوطه الطفولية وماندالاته التيبتية زمناً، لينتقل الفنان إلى عالم القطع واللصق (الكولاج)، مثلما شاهدنا في سلسلة أعماله الأخيرة؛ هذا الفن الذي أصبح يزداد حيوية وحضوراً في الوطن العربي بالرغم من الموات المحيط من كل الجهات.

كثرة كاثرة من الفنانين تنقلك إلى ذاتها؛ ذات وطنها، فتجد لألوانها وخطوطها ومساحاتها اللونية إيقاعات تذكّر بما يزخر به هذا الوطن أو ذاك من جماليات يبعدها عن الأعين والأحاسيس ضجيج الرماد السياسي، وصوت اصطفاق أبواب البورصات، وغبار المدرّعات، وحرائق المدن.

من حسن الحظ، أن يُحدث هذا المعرض الجامع بين الأطراف العربية في المقام الأول، تفاعلاً بين الفنانين المشاركين، فيخترق الفنان زمنه إلى زمن أرحب فنياً وجغرافياً، مثلما حدث حين تعاون التشكيلي أمين الباشا من لبنان والمصوّر الفوتوغرافي رضا سالم من الكويت، حيث قدّم الاثنان معرضاً للوحات تتكوّن من ألوان وخطوط تشكيلية وصور فوتوغرافية. أحدث اجتماع هذين الفنانين تمازجاً بين شاطئين، فرأينا مقهى بيروتياً يطل على ساحل بحر خليجي، وباعة سمك في أسواق الكويت يجاورهم ويراقبهم مشهد غابات الأرز. من المتوقع أن نرى تجربة أخرى مماثلة، ولكن بين فنان من مصر هذه المرة وبين فوتوغرافيا سالم الذي تجول بعدسة تصويره في الأحياء القاهرية طويلاً.

عالم التشكيل يبدو حراً، أو محرِّراً إن أردنا الدقة، من كل هذا الضجيج. هنا سيجد المشاهد سعادة آتية من أعماق منسيّة حين تقدّم له شبنام حسين من الهند بساطة وهدوء أنهار الأرياف الهندية، وترسم ملامح نساء خارجات لتوهن من الرامايانا أو الماباراتة، أو حين تعيده لوحات فاتح المدرس من سورية إلى ملامح ممحوّة ومهملة على صخور معلولا، أو وجوه فاتنات تدمر العربيات التي تآكلت مع الزمن.

سيتوقّف طويلاً أمام نساء وشخوص شبحية صامتة في خلاء لونه أزرق أو برتقالي اللون في لوحات راشد دياب من السودان. وستذكّره تداخلات المكعبات الهندسية، وفي قلبها أطفال ورجال متمردون وخيول بفلسطين الفنان عبد الهادي شلا، الحريص من منفاه في كندا على أن يحضر ولو متعلقاً بهدبٍ من أهداب الخريطة العربية.

بعض الفنانين يختار وطناً مختلفاً؛ التجريد المطلق. ربما لأنه سئم من تراب لا يرى فيه ألواناً، كما زعم عدد من الفنانين العرب ذات يوم أمام فنان بولندي مهاجر، فحاول أن يعيد إليهم صوابهم، وقال لهم بلهجة عطوفة: "لو أحببتم وطنكم لرأيتم في طينه كل الألوان".

لا أدري إن كانت هذه الكلمات أعادت إلى هؤلاء الفنانين صوابهم، ولكن الفنانين لم يعودوا يصرخون كما اعتادت غالبيتهم في الماضي، بل أصبحوا يتأمّلون، إن صح التأمّل بالخط واللون على قماش لوحة، أو بانسياب وتموّج ينحدر على أطراف كتل من خشب أو حجر، ولم يعد روّاد صالات الفن يطلبون أكثر من هذا؛ الكلُّ يودّ، كما لو كان في فضاء سحري، أن يرافق أحلام وتوقيعات هؤلاء الفنانين أو أن تكون له أحلامهم وإيقاعاتهم أيضاً.

سألت مرة فناناً كبيراً عن مغزى تمثال من خشب مصقول يمثّل رجلاً منهكاً ينحني مثل عود خيزران، فرد ببساطة، ها هنا شكل جميل ممتع للبصر.

لا مغزى للفن التشكيلي أبعد من مخاطبة الأحاسيس، وليس لمن يشاهد أعماله أن يبحث عمّا وراء هذا، بل أن يتلمّس أحاسيسه هو بعد أن يرى. أن يصغي إلى ما يتردّد فيها، ولا بدّ أن ينشأ من كل هذا موقف وسلوك في الحياة مختلفين في العمق، أو.. لا مبالين يظل الإنسانُ بعدهما طافياً على سطح وجوده.

دلالات
المساهمون