مسرح المضطهدين.. الثورة فوق الخشبة لا خارجها

26 ديسمبر 2016
(أوغستو بوال في تمرين مسرحي)
+ الخط -

لم يتخلّف المسرح عن التطرّق إلى المضامين السياسية منذ نشأته، فحين كتب أرسطوفانيس مسرحية "الطيور" فكّر في كيفية تشكيل الدولة والصراعات داخلها.

استعاد المخرج المسرحي المغربي إبراهيم الهنائي هذه السنة أرسطوفانيس حين قدّم مسرحية "برلمان النساء"، وهو يرى أن تجربة المسرحي البرازيلي أوغستو بوال (1931 - 2009) تطرح علينا سؤالاً حول إعادة تغيير قواعد اللعبة المسرحية، فعلاقة المسرح بالسياسة ظلّت على الدوام حاضرةً في معظم التجارب العالمية، بل يمكننا أن نفكّر اليوم في كيفية حضور المضامين الأيديولوجية في المسرحيات.

استطاع الجانب السياسي أن يهيمن، في فترات متفاوتة، على تجارب عالمية وعربية. فتجارب وليم شكسبير وبرتولد بريشت في الغرب، أو في التجارب المسرحية العربية المعاصرة، كتجربة سعد الله ونوس على سبيل المثال؛ يُمكن النظر إليها كمراجع في "المسرح السياسي".

لكن يبقى السؤال بالنسبة إلى الهنائي، هو كيف نمرّر هذه المضامين السياسية من خلال الفرجة المسرحية؟ وهو سؤال رافق رائد المسرح السياسي إرفين بسكاتور (1893 - 1966) والذي عمل على تفادي النص والانتقال إلى الوثيقة لتمرير تجربة المسرح السياسي.

يعود الهنائي إلى محطّة مفصلية؛ تجربة مسرح المضطهدين، كما أسّسه أوغستو بوال، ففي سنة 1973 قرّرت حكومة البيرو أن تحارب الأميّة من خلال المسرح، فكلّفت مجموعة من الشباب كان من بينهم بوال الذي وجد في تنقلاته بين بلدان أميركا اللاتينية، ثم إلى أوروبا، فرصة لتطوير فكرة "مسرح المضطهَد".

مواضيع هذه التجربة لصيقة باليومي، حيث يبتعد بوال عن المواضيع الميتافزيقية، غير أن الهنائي ينوّه إلى أن هذا لا يعني أي تقارب مع مسرح "الطبقة العاملة" إذ يؤكّد بوال أن المسرح لا يمكن أن يكون مسرح طبقة اجتماعية معينة.

في 2006، كتب بوال "نداء المسرح العالمي" وأعاد التأكيد على أن المسرح في الأساس سياسي وأداة تحرير من جماعة سياسية. من هنا قدّم تصوّراً آخر للمسرح حيث يعيش جسد الإنسان اضطهاداً، لذلك سعى بوال إلى تحرير الجسد حتى تتمكّن الأحاسيس من التعبير عن نفسها، والتحرّر من القيود.

ملمح آخر في تجربة مسرح المضطهدين، يثيره الهنائي، يكمن في كون المسرح تظاهرة اجتماعية حيث تقوم "الثورة" فوق الخشبة وليس خارجها، وبالتالي فإن المسرح يصبح تدريباً على الثورة.

رفض المسرحي البرازيلي أن تحمل أعماله أيّة سمة شعرية، فهو يُسائل الأسئلة، والممثّل معه أقرب إلى "الجوكر" لا يتقمّص الدور الوحيد، والنص متحوّل. ولعلّ التجارب التطبيقية التي مارس فيه هذا المسرحي نظرياته قد مكّنته من الاقتراب أكثر من فلسفته المسرحية.

قدّم الهنائي أربع مستويات وأقانيم أساسية لتمثّل هذا المسعى، من خلال المسرح اللامرئي، ومسرح الصورة، ومسرح المنتدى، ومسرح الجريدة، وهي جميعها أشكال مضادة للوظيفة الترفيهية للمسرح، وفيها يظلّ هاجس التغيير حاضراً بقوّة، فرهانها هو خروج المتفرّج من شرنقة الاستعباد والخضوع في سبيل الانتقال إلى مرحلة أخرى.

استُلهمت تجربة "مسرح المضطهَد" في المسرح العربي، بل حاول بعضهم استنباتها في مناخات محلية. نجد أثر هذه التجربة أيضاً في مسرح الهواة في المغرب، حيث أن بساطة التقنيات التي يقترحها بوال في مسرحه تتيح لها التمدّد بعيداً عن المحترفين، هذا من دون أن ننسى حضورها في تجارب مسرحية مغربية حاولت "مَغرَبة" منظوره للتغيير والتحرّر وتشكيل جبهة الممانعة.

كان المسرحي محمد أمين بنيوب قد أثار مسألة جوهرية في تعريف المسرح كمؤسّسة اجتماعية لتشخيص القضايا المجتمعية، وطرح إشكالات جوهر الإنسان، حيث يُعتبر المسرح أرقى ممارسة للنضال الديمقراطي، استطاع أن يبلور منظومة تفكير تخصّ جوهر الإنسان ليظلّ السؤال: هل المسرح ضرورة اجتماعية في المغرب والعالم العربي؟

إذا كان بوال قد حاول تجاوز المنحى الأرسطي لإيمانه بضرورة تحفيز نزعة التغيير عند المتفرّج، فإن السؤال الذي يُطرح اليوم ومع تداعيات "الربيع العربي" والأوضاع السياسية الحالية، هو: كيف يُمكن للمسرح العربي استعادة "مسرح المضطهَد"؟ ووفق أية رؤية؟ ألا يجيب هذا المسرح على جزء من إشكالات المسرح العربي اليوم في اختياراته الجمالية؟ لكن، هل استطاع العالم العربي أن يبلور فرجته الخاصة التي تستجيب لإشكالات الواقع المجتمعي؟

لعلّ أهمّ ما يطرحه مسرح بوال هو توفيره الإطار الفني لتجاوز منطق "الخضوع" الذي نظر به البعض للمسرح، وحتى ميوله التحريضية تبدو قادرة على استحضار فعل مسرحي تنويري، وهي عناصر تبلورت جمالياً ومسرحياً بأشكال مختلفة في بلادنا بطريقة عفوية، إذ نعثر عليها في تجارب "مسرح الشارع"، والتي تنامت في المغرب السنوات الأخيرة، وفي الاشتغال على تقنيات الارتجال للتعبير عن قضايا راهنة وإيجاد صيغ جديدة للعرض المسرحي خارج أطر العُلبة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
استيراد أوغستو بوال
يوازي جميع خطوات المسرحي البرازيلي أوغستو بوال في تطوير فكرته "مسرح المضطهَد" اشتغالٌ نظريٌّ تبلور في قرابة 15 مؤلّفاً من بينها "تقنيات لاتينو- أميركية لمسرح شعبي" و"مسرح المضطهد وسياسات شعرية أخرى" و"الانتحار عبر الخوف من الموت" و"قوس قزح الرغبة". لعلّ محاولات تأصيله العربية تتغافل عن هذا الجزء المكتوب، وبالتالي فهي ربما تأتي بالجانب التقني وحده، ووقتها سيظلّ مجرّد "منتج مستورد".

المساهمون