أهازيج الموت هذه، أو المراثي أو البكائيات، التي يُطلق عليها في اللغة الشعبية "العديد" وهو جمع "عدودة"، تختلف بحسب مكانة الراحل، فهناك أهزوجة للزوج، وأخرى للأب أو للأم أو للمرأة التي تموت من المرض، بل وتختلف عدودة الميت الغني عن الفقير.
فَلِهول الموت والفقدان مكانة خاصة في الغناء الشعبي في الصعيد المصري، وإلى جانب الملابس السوداء والعويل والصياح بمفردات بعينها، يأتي الغناء ليُضفي طابعاً جمعياً لمحنة الموت، اللافت أن "العديد" يقتصر على النساء، بل إن المرأة، بصرختها الأولى، أو عديدها الأول، هي المخوّلة بأن تعلن نبأ الموت؛ حيث تقدّم نوعاً من العرض الأدائي يتغيّر بحسب سبب الموت ومكانة الميت، خصوصاً إذا كان الميت قد قُتل، حيث يلعب "العديد" دوراً تحريضياً على الثأر، ويأخذ شكل البرفورمانس التراجيدي والمروّع والقاسي، يملأ قلوب الرجال بالرغبة في الثأر، يُقال مثلاً "لا أنا حرامي ولا سارق جمال.. عشان إيه يا شبيب أموت قتلان؟ لا أنا حرامي ولا سارق فلوس..عشان إيه يا شبيب أموت مقتول؟".
محمد شحاتة علي، الباحث في التراث الشعبي المصري، وصاحب كتاب "أغاني النساء في صعيد مصر" (الهيئة العامة للكتاب)، يقول في حديث إلى "العربي الجديد" إن ما يلفت النظر أن "العديد يشبه الشعر الموزون، ويأتي في رباعيات، وهو في غالبه من صنع المرأة، ويمثّل مشاعر اختمرت داخلها لزمن طويل، فأصبحت تستقطبه أو تستعيده عند الحاجة، فلا تبكي الميت بقدر ما تبكي نفسها".
من أمثلة ذلك، "عدودة" للمرأة التي تموت مريضة "يا حبيبتي ياللي الوجع كادك/ ياما حرم النوم على جنابك/ ياحبيبتي ياللي الوجع هدك/ ياما حرم النوم على جنبك"، وكذلك ما تقوله الفتاة المتزوّجة وهي خائفة من الظلم والقطيعة بعد وفاة الأم "وأنا داخلة ولقيت جمعية (مجموعة من النساء)/ ولقيت خزانة الود مخفية/ وأنا داخلة قال لي الخشب خبر إيه؟/ حبيبتك مشيت وإنت جاية هنا ليه؟".
يبالغ الأحياء في التألّم واستدعاء وحدة الميت، كما لو كانت مرآة يرون فيها مخاوفهم وقلّة حظّهم. ثمّة "عديد" خاص للمرأة التي بلا أولاد أو بنات، وليس لها من يسبل عينيها؛ تقول "أعوز بنية عند سبل الراس/ تبكي تبكِّي الحاضرين يا ناس/ أعوز بنية عند سبل الفم/ تبكي تبكّي الحاضرين والكل".
وربما يكون من أكثر النماذح تفجّعاً ذلك الذي تغنّيه المرأة إذا فقدت أباها، فتنشج وتنشد "يا أبوي حبيبي يا زرار التوب/ يا قمع سكر أبل بيك الشوق/ يا أبوي حبيبي يا زرار توبي/ يا قمع سكر أبل بيك شوقي/ يا أبوي حبيبي يا عمود برخام ولا يقدر الواعر يرد كلام/ يا أبوي حبيبي يا عمود لينا/ ولا يقدر الواعر يشانينا".
ومن عديد الزوجات على الأزواج "والمندرة عدّوا كراسيها/ ودا كرسي مين اللي اتكسر فيها؟/ كرسي العروبّي (كبير العائلة) اللي محلّيها/ والمندرة فزّت لها علوة، واتشوقت على دخلته الحلوة". هنا، تتماهى الأرملة مع الأشياء، فالمندرة ليست سوى الزوجة نفسها والتي تستخدمها لتعبّر عن أشواقها والتياعها لرؤية زوجها من جديد، وكذلك حين تتقمّص شخصيته وتتحدّث باسمه، فتتخيّل أنه يغنّي لها "تتوحشيني لو كنت أنا برا/ وش حالك لما غبت بالمرة".
ليس العديد الشعبي في الصعيد ببعيد عن الرثاء في الشعر العربي، إذ يمكن تلمّس الكثير من ملامح قصائد كتلك التي كتبتها الخنساء في رثاء أخيها صخر. غير أن الشعر العربي حافل أيضاً بأشعار الرجال في رثاء أبنائهم وزوجاتهم وحبيباتهم، بخلاف الرثاء الشعبي المصري وربما العربي، الذي يبدو كما لو أنه حكر على المرأة، والتي شكّلت الوسيط الذي نقل هذا التراث الشعبي، جيلاً بعد آخر.
هنا، يرى علي أن "مهام المرأة الكثيرة في الصعيد، داخل وخارج المنزل، جعلتها تبحث عن أشياء تخفّف بها عن نفسها، فكانت الأغاني الشعبية السبيل الوحيد الذي يعينها على تحمّل أوقات التعب والعمل الطويل والمجهد"، ويكمل "كما أن النساء يتمتّعن بذاكرة أقوى من الرجال، ويجتمعن أكثر منهم، فكن يتسامرن بتلك الأغاني، وبينما تتعدّد أنواع الغناء عند النساء بين أفراح وأتراح، تقتصر أغاني الرجال على الأعراس والعمل".
يتطرّق علي إلى المصاعب التي واجهته أثناء عمله على جمع الأهازيج التراثية في عمله البحثي "أغاني النساء في صعيد مصر"، موضّحاً أن الدخول إلى مجتمع مغلق مثل مجتمع الصعيد، وخاصة مجتمع النساء، هو أمر في غاية الصعوبة، ويشكّل عائقاً كبيراً أمام أي باحث رجل يحاول دراسة هذه الدوائر النسائية الصعيدية وما يدور فيها.
ويتابع "يحتاج الباحث إلى حمل جهاز تسجيل أو كاميرا، وهذا يُعدّ مريباً وسط مجتمع النساء، ولا تقبله الجماعة الشعبية وأفرادها المحافظون مهما برّرنا لهم أهمية العمل". ويلفت علي إلى أن ما سهّل عليه الأمر قليلاً، هو أنه أنجز البحث في قريته "نزلة القنطرة" في محافظة أسيوط، وأن معظم عائلات القرية تربطهم علاقات نسب، لذلك لم يكن مريباً حضور أفراحهم، أو الدخول إلى مجتمع النساء هناك.
ومثلما تغنّي المرأة للزفاف والموت والولادة، تغنّي أيضاً للجنس، فكانت الأغاني وسيلة لشرح شيء ما، خصوصاً في "ليلة الدخلة"، حيث يصعب الحديث مباشرة في هذه المجتمعات عن تفاصيلها، خصوصاً أن أعمار العرائس والعرسان صغيرة نسبياً، فيجري تمرير تلك المواضيع في الغناء، وفقاً لـ علي، ومن أمثلة ذلك "نوم السرير شوكني/ ونوم دراعك حرير/ والواد من كتر هزاره/ كسر رجل السرير/ وآدي السرير من تعبه/ يدعي على النجّارين"، وأيضاً وصف العروس وحديثها حين تدخل حجرتها "والعين تشيل وقية/ م الكحل آبو دلال/ هاتلي خمرة نضيفة/ وأقلعلك القميص"، أو حين تغني "ما اعرفش أدق الكسبرة/ هاي هاي/ إلا بقميص المسخرة/ هاي هاي/ ما اعرفش أدق التوم/ هاي هاي/ إلا بقميص النوم".
ومن المقاطع الأخرى في هذا السياق "يا اللي على الترعة حوّد على المالح/ شعري بيوجعني من شد امبارح/ خدي بيوجعني من بوس امبارح/ وسطي بيوجعني من رقص امبارح/ ضهري بيوجعني من نوم امبارح/ يا اللي على الترعة حوّد على المالح/ حاسب على بيتنا بانيينه امبارح".
لا يقتصر الأمر على الغناء للحياة اليومية، بل تتغنّى الأهزوجة الصعيدية بموسم الحج، وعودة الحجّاج وزيارة بيت النبي، والذي يُطلَق عليه غناء "التحنين"، ومن أمثلته "تهون التقيلة إن مدحت/ النبي تهون التقيلة/ من الشرق جولك فاطمة تقول/ يا أبايا من الشرق جولك/ من الشرق جولك ضيعوا مال/ عليهم عشان ضي عيونك" وغيرها كثير.