مجانين على السطح

19 سبتمبر 2015
(مريض في مصح عقلي في نابولي، ريموند ديباردون، 1979)
+ الخط -

لسببٍ ما، ينزع الأدب والفن إلى فكرة الجنون، كثيمة أساسية في الحياة. هكذا، وجد المجانين من يُنصفهم ويفهمهم أكثر من أيّ شخص آخر، إضافة إلى أطبّاء الأمراض العقلية، والذين - بدورهم- يميل الأدب، عادةً، إلى تصويرهم كمجانين.
في فيلمه الوثائقي "اغتراب"؛ قدّم المخرج الجزائري مالك بن اسماعيل قراءةً مختلفة للواقع السياسي والاجتماعي في بلده، من خلال آراء عددٍ من نُزلاء مصحّة عقلية، مقدّماً صورة عن الجزائر من وجهة نظر المختلّين عقلياً، متّسمة بكثير من الصدق والعمق.

يُذكّر ذلك بمقولة إدغار آلان بو "اعتبرني الناس مجنوناً. لكن لم يُبَتّ بعد إن كان الجنون هو أرفع درجات الذكاء أم لا، أو إن كان كلّ ما هو رائع وكل ما هو عميق نابعاً من سقم في الفكر أو من حالات مزاجية للعقل تعلو على حساب القدرات الفكرية العامة"، وبتلك الدعوة إلى أخذ "الحكمة من أفواه المجانين".

وُظّفت هذه الثيمة في التراث العربي؛ كما في قصص "بهلول" أعقل المجانين وحكمه. وهو توظيف لم ينقطع في الأدب العربي. نذكر هنا، مثلاً، رواية حنّا مينا "عاهرة ونصف مجنون"، التي يطرق فيها عوالم الفلسفة وعلم النفس والمنطق، مصرّاً على أن ذلك الطفل حافي القدمين والشاب البائس الذي يُسافر من اللاذقية إلى دمشق، ليس شخصية روائية، بل هو الكاتب نفسه.

أيضاً، رواية غازي القصيبي "العصفورية" التي تدور أحداثها في مشفىً للأمراض النفسية، ورواية "صابون تازة"، للكاتب المغربي إبراهيم الحجري الذي يُلقي فيها الضوء على عالم المجانين والمشرّدين المنسي والمهمّش.

الثيمة نفسها أغرت مواطنه بنسالم حمّيش للتنقيب في سيرة الحاكم الفاطمي أبو علي منصور، الحاكم بأمر الله، الذي حكم مصر والشام طيلة ربع قرن، وعُرف بغرابة أطواره، فكان مادّة روائية في عمله "مجنون الحكم".

قبلها، قدّم جورج سيمون روايته البوليسية "الرجل المجنون" في بيرغيراك (1932) التي تتناول جرائم مختلّ عقلياً، وستيفن كينج في روايته "البريق" التي تروي قصّة كاتب مجنون يقضي الشتاء مع عائلته في فندق مهجور.

يحضر ارتباط الجنون بالكتابة في "الحالم" للروائي الجزائري سمير قسيمي. أمّا الكتّاب والمبدعون الذين عانوا من اضطرابات نفسية أو عقلية فهم أكثر من أن يحصوْا. يكفي أن نذكر منهم ألان بو نفسه وفيرجينيا وولف وفينسنت فان غوخ ومي زيادة.

إضافة إلى قائمة الاضطرابات الطويلة العريضة تلك، طالما ظلّ الكاتب محلّ اتهام بنوع آخر من الجنون، هو جنون العظمة الذي عرّته الشبكات الاجتماعية وزادته حدّة.

في قصّته، "مجنون على السطح" للكاتب التركي عزيز نيسين، يعتلي المجنون سطحاً ويهدّد بإلقاء نفسه إن لم يُنصّب مختاراً على البلدة. تفشل كلّ محاولات إنزاله، لكن شيخاً طاعناً في السن والتجربة ينجح في ذلك، حين يطلب منه الصعود، فيمتثل المجنون إلى طلبه بشكل عكسي.

لعلّ هذه الحيلة تنفع مع كثير من الكتّاب الذين بلغوا درجة الجنون وافتقدوا الحكمة.

المساهمون