داود حسن.. حفر مضاد في السويس

07 اغسطس 2015
ناقلة بضائع تقترب من جسر القناة (تصوير: آشاي بيندور)
+ الخط -

منذ العنوان، تمرّ فكرتان أساسيتان في ذهن المشاهد؛ الأولى هي أن قناة السويس تتجاوز الخضوع لإدارة الدولة المصرية، كما يكشف تاريخها. والثاني، هو أنها مؤسسة تكاد تشبه "الدولة" من حيث ضخامتها وطرق تسيير دواليبها.

يعتبر داود حسن (1971) في لقائه بـ "العربي الجديد" أن "الفيلم هو الذي أتاني ولم أكن أنا من ذهب إليه". انطلقت الفكرة حين طلبت "هيأة قناة السويس" منذ سنوات من شركة إنتاج داود إنجاز فيلم دعائي من عشرين دقيقة.

يبيّن "لم أكتف بإنجاز المطلوب، بل سعيت في اتجاهات أخرى متشعبة، فلما أنهيت وجدت لديّ من المادة ما يتجاوز الإطار الذي عملت فيه". يضيف "أحسست بأن قصةً ما يجب أن تُحكى؛ قصة قناة السويس".

من هنا، سينمو في ذهن المخرج المصري حلم إنجاز فيلم عن القناة وتاريخها. يبيّن "شاهدت أغلب الأفلام العربية والغربية حول القناة. جميعها تناولت قصّتها من زاوية التاريخ السياسي، الذي تناولته في معظمها انطلاقاً من لحظات تاريخية وحروب".

يستند الفيلم، وفقاً للمخرج، إلى قرابة أربعين مرجعاً ويقابل عشرين ضيفاً، عن ذلك يوضّح داود أن العمل بدا له أول الأمر صعب الإدارة. وفي المحصّلة، تطلب منه إعداد الفيلم سنتين، حتى انتهى منه قبل عشرين يوماً فقط من العرض الأول، والذي صادف الجو الاحتفالي لافتتاح التفريعة الجديدة من القناة منذ أيام.

يقول حسن: "تطوّرت فكرة شريط "دولة قناة السويس" في ذهني من قصة تاريخية إلى قصة إنسانية. القناة بالنسبة إلي كائن حي، بدأ كجنين في بطن الأرض يفكّر فيه المخططون والإستراتيجيون منذ ما قبل الميلاد ويمتدّ عمره إلى ما لا نعرف. كما أنني وجدت أن تاريخ مصر والمنطقة يمكن أن يُحكى من خلال قصة القناة".

يعيد الفيلم النظر في بعض القناعات العامة، مثلاً يكشف أن تأميم قناة السويس لم يكن من بنات أفكار جمال عبد الناصر بل إنه مطلب ظهر منذ الثورة العُرابية في نهايات القرن التاسع عشر، بحسب المخرج "كان هناك انتباه شعبي دائم لقضية القناة ودورها، وأردت أن أشير إلى ذلك".

لم يتوقف العمل على التناول التاريخي، بل إنه أخذ القناة من زوايا لم تظهر منها من قبل، يوضّح :" أردت تبيان كيف تعمل هذه القناة، وكيف تُدار وكيف يجري تأمينها، ودرست تاريخها الداخلي، فمثلاً حين توقفت من 1967 إلى 1975 تطرقت إلى ما عاشته وقتها من تخطيط، كما بيّنت أن الخمس سنوات الموالية كانت هي الفترة التي حصلت فيها أهم جهود تطوير القناة".

يفتح الفيلم على أبعاد قلما نظر إليها الباحثون، أو ربما تحاشوها لما قد تثيره من إحراجات للسلطة في مصر. فقناة السويس بالنسبة إليه "مشروع يعمل بجزء ضئيل من قدراته"، إذ يرى حسن أن "الدخل الحقيقي الذي يمكن أن تجلبه السويس ليس في الأداء على السفن العابرة منه ولكن في الخدمات التي يمكن أن توفرها".

يقول "قناة السويس هي الحلم المصري الحقيقي، إنها قادرة على حل مشاكل مصر". ما يعيق أن تقوم بدورها هو عدد من العوامل المكبّلة، التي يتطرّق إليها الفيلم، أهمّها اتفاقية السلام مع إسرائيل، وكذلك توجه الدولة المصرية إلى عدم إعمار سيناء. كما يشير حسن إلى سبب آخر، وهو "الخوف من أن تنهي قناة السويس، في حال أصبحت مركز تخزين وتوزيع وعرض، إلى إنهاء أدوار مراكز أخرى في العالم منها دبي".

يفتح الفيلم قوساً حول التهديدات التي تتعرض لها القناة، منها مخططات إسرائيلية ترمي إلى حفر قناة جديدة تبدأ من إيلات وتصب في المتوسط، وهو مشروع يبيّن الخبراء أنه مكلف جداً. لكن الخطر الذي يسلط عليه الضوء بشكل أكبر هو ممر القطب الشمالي الذي يربط بين أوروبا وأقصى الشرق في وقت أقل من المرور عبر السويس. غير أن هذا الممر لا يشكل حالياً تهديداً لقناة السويس، نظراً إلى حاجة كل السفن التي تعبره إلى كاسحات ثلوج. إنما على المدى البعيد، وفي ظل التغير الحراري قد يصبح الممر المفضل للتجارة العالمية.

مقابل كل ذلك، لم يتطرّق الفيلم للتفريعة الجديدة. يقول حسن: "لم أفعل ذلك رغم أن لدي الكثير مما أقوله في هذا الموضوع. حصرت مهمتي في توضيح الخلفيات للمُشاهد". ويضيف "الوثائقي لا يتحدّث عن الحاضر فالجميع يعيش ضمنه. أحاول أن أفسّر ما حدث قبل ذلك، وليستنتج المُشاهد الأسباب ليكوّن صورة كلية".

وعن موقفه مما بات يسمى بـ "قناة سويس ثانية"، يقول "ثمة مغالطة؛ إنه مشروع من المفترض إنجازه خلال سنوات، لكن نظراً للتشنجات السياسية والبحث المتهافت عن إنجاز ما، فقد أنجر في مدة سنة". يختصر فكرته: "هذه الخطوة مشروع كبير ولكنه متسرّع".

بدأت مسيرة داود من الصحافة الورقية في بداية التسعينيات، قبل أن ينتقل إلى الصورة حيث عمل في التلفزيون المصري ثم في قناة "الجزيرة" ليُنشئ بعد ذلك شركة إنتاج تخصّصت في الأفلام الوثائقية.

أول أعماله كمخرج كان بعنوان "تسونامي على ضفاف الخليج" تناول فيه أوضاع العمالة الآسيوية في دول الخليج العربي. وبعده أنجز فيلم "أمازيغ مصر" (2009) ثم فيلم "أرواح بلا ثمن" (2011)، في السنة نفسها أخذت مسيرته منعطفاً جديداً، مع الثورة المصرية التي اعتبر توثيقها مسؤولية أساسية.

في هذا الإطار أنتج سلسلة "فنون الثورة" من 13 حلقة كل واحدة من خمس دقائق، انتقل فيها من شخصية إلى أخرى ممّن أثثوا أيام ميدان التحرير "من رسام الكاريكاتير إلى الهتّيف الذي يُحمل على الأكتاف" كما يقول. أنتج أيضاً ثلاثية "الطريق إلى التحرير" والتي ترصد في ثلاثة حلقات العقود الثلاثة من حكم حسني مبارك.

كما أنتج "يوميات الثورة المصرية" في عشرين حلقة التي يقول عنها: "تصدّيت لهذا العمل وفي ذهني وقتها أنني أفعل ذلك كي لا يقول أحد إن الثورة لم تقع في مصر، التوثيق يعبّر عن يقظة". يتذكّر: "في الميدان لم نكن نعرف ما يحصل، ولا إلى أين ستؤول الأمور". فيما يهتم اليوم بما يسمّيه بـ "الإعلام التنموي" ومن خلاله يسعى إلى "توثيق التجارب التنموية المستقلة".

عن واقع إنتاج الأفلام الوثائقية اليوم في مصر والعالم العربي، يعتبر حسن أن المعيقات أكثر بكثير من التسهيلات، بداية من صعوبة توفر التمويل وصولاً إلى ضيق مساحة التسويق". من جهة أخرى يلاحظ أنه "في الفترة الأخيرة، أي ما بعد 2011، حصل طلب على الإنتاج الوثائقي ولكنه لم يصل إلى درجة تؤمّن حياة شركات الإنتاج التي تعيش في معظمها أزمة اقتصادية مستمرة".

من جانب آخر، يكشف أن "أخطر عمل اليوم هو التصوير في الشارع المصري"، مضيفاً "منذ عام تقريباً لم أصوّر في الشارع، ما يدفعني إلى التفكير في الاستقرار في المغرب أو في بلد أفريقي آخر".

المساهمون