ميشيل فوكو.. من أجل جنون عربي

25 يونيو 2015
(تصوير: مارتن فرانك، 1978)
+ الخط -

ضمن سياق مساءلة الحداثة والتشكيك في مشروعها، ظهر فكر ميشال فوكو (1926 - 25 / 6 / 1984) بداية ستينيات القرن العشرين. سرعان ما لفت انتباه الحياة الفكرية إليه حين قدّم مجلداً ضخماً بعنوان "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي".

عمل اعتمد فيه على الجدليات المادية (ركيزة الحداثة) ليأتي بمفهوم نقيض لمحور هذه الحداثة: العقل. لقد انساقت الحداثة الغربية في تعبّد العقل وتكريسه، دون أن ترى بأنها كانت تفرز "الجنون" من جهة أخرى، ولكي تبقي على طمأنينتها عملت على إخفائه من الفضاء العام.

يحصر فوكو عمله في العصر الكلاسيكي (من القرن الخامس عشر إلى السابع عشر)، وهو عصر عبادة العقل والأخذ بما يقول به مثل نبي معصوم. لقد التقط فوكو لحظة بدء الحداثة كاشفاً أنها أيضاً لحظة بدء الحداثة المضادة، لحظة ولادة العقل والجنون كتوأم. حصر بحثه في هذه المدة الزمنية ثم ترك أطروحاته تتحرك في ما بعد فوق أرض الواقع وتنمو بشكل فطري.

لعل العالم العربي يمثل أحد أخصب الأراضي التي التقطت بذور فكر المفكر الفرنسي، بحكم فعالية الثقافة المستوردة من فرنسا في عدة دول عربية، وربما أيضاً لحضور فوكو في العالم العربي كمدرّس خصوصاً في جامعات تونس.

ومع دخول جيل من تلامذته إلى معترك الحياة الثقافية، التقطت أفكاره بانبهار شديد، وحظي بحركية ترجمة لأعماله لم يحظ بها مفكرون فرنسيون معاصرون مهمون إلا في وقت متأخر له مثل جيل دولوز أو بول ريكور.

وإذا كان سؤال الحداثة وإخفاق العرب في امتطاء قطارها حاضراً بقوة في جدالات الحياة الفكرية العربية، فإن الاهتمام بفوكو، يبدو بناء عليه، لحظة فكرية سابقة لمشكلات الواقع العربي. حتى أن حجم حضور فوكو في اللغة العربية يشير إلى خلل في منظومة الترجمة وما تقدمه، فهل هي على مقاس حاجيات واقعنا أم تسير على بإرادة تكريس الأسماء حسب ميولات المترجمين والمفكرين.

وقد أطلق المفكر التونسي محمد المزوغي في كتابه "في نقد ما بعد الحداثة" ما يشبه صرخة في وجه "الطريقة المتساهلة التي تقبّل بها بعض المفكرين العرب ميشال فوكو، وتزكيتهم لفكره دون أن يختلجهم الشك في أن أطروحاته التي تفتح الباب أمام كل أصناف العدمية واللاعقل". بعبارة أخرى، توصل "الطريقة المتساهلة" في نقل الفكر العالمي إلى الخروج من الحداثة دون الدخول فيها.

وإذا كان الجنون بحسب أطروحة فوكو النقيض الذي أفرزه العقل الغربي، فإن الشرق هو أيضاً نقيض أفرزه العقل الغربي. لا بد أن نشير إلى أن الجنون الذي يطرحه فوكو هو جنون الغرب، فالعقل الذي درسه هو عقل الغرب، والميكانيزم الذي أحدث ثنائية العقل والجنون، والحداثة وما بعد الحداثة، كان يعمل تحت شروط الغرب. في حين لا يتحقق عندنا من ذلك الشيء الكثير، فكما أخفقت المحاولات في الاستيراد الحداثة واستنساخ العقل الغربي عندنا، فإن الجنون الغربي غير قابل أن يكون جنوننا.

لنا مع هذا العقل الغربي صدام، فقد جاءنا غازياً، وإذا كان تحرّرنا الأول (من الاستعمار) قد اعتمد على ما تلقفناه من العقل الغربي، فقد كشف لنا التاريخ أن ما تحقق هو استقلالات منقوصة، وبالتالي فمواجهة الغرب عقلياً عملية غير مثمرة كفاية.

لم يبق سوى توسيع دائرة الصراع معه، بدخول المساحات التي يحتلها نقيض العقل؛ الجنون، جنون التجاوز واللعب في حلبات لا يطرحها الغرب. لقد عرّف فوكو الجنون بـ "عقاب هزلي للمعرفة وافتراضاتها الجاهلة" (ومنها افتراضاتها حول الشرق ودونيته). لذلك، ففي هذه الجولة، ينبغي أن يتولد جنون خاص بنا. جنون عربي نقيض للعقل الغربي، هذا ما نحتاجه.

المساهمون