"المعتمد": منسيّات الحداثة الشعرية

17 نوفمبر 2015
(ساحة المعتمد بن عبّاد في مدينة شلب البرتغالية)
+ الخط -

تمثِّل مجلة "المعتمد" التي تعهَّدتها الشاعرة الإسبانية تْرينا مِرْكادي (1919 - 1984) تجربة أدبية فريدة في تاريخ الأدب المغربي، وتحديداً في منطقته الشَّمالية، حيث يقف القارئ مشدوهاً أمام مغامرة شعرية جريئة، تنتفي فيها الحدود والهويات، وتتلاشى على صفحاتها الانتماءات، ويصدُق عليها ما ذهب إليه الكاتب الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس إلى أن "هناك حالاتٍ تُبدع فيها القصيدة نفسَها بنفسِها".

ولعلها كانت تلك حال القصيدة المغربية التي احتضنتها مجلة "المعتمد"، التي يستخلص متأمِّلُها أنها نجحت في تخطّي المحلي، لتنفتح على الكوني عبر نصٍّ أدبيٍّ لا يتردّد قارئُه في وسمه بالعابر للثقافات، لأنّه مُنجَزٌ شعريّ مركَّب، تتعانق فيه تجاربُ متباينةٌ بين إسبان إسبانيا والمنفى وشمال المغرب؛ وعرب البلاد العربية والمهجر، ومغاربة من المنطقتيْن السُّلطانية والخليفية؛ ومن الجنسيْن، ومن جهة أخرى تختلف مقاربات هؤلاء في الاختيارات الجمالية والشكلية حيث كانت تظهر القصائد العمودية والحرّة مع قصيدة النثر.

ضمن هذا المشهد، أتيح للقصيدة المغربية أن تُكتب على أساس الندّية، ولم يكن الحضور الغربي (الإسباني) الممثَّلُ بأسماء مرموقة مثل بِيثِينْتي أَلِكْسَنْدرِي (الحائز على نوبل للآداب عام 1933) ولِيُوبُولْدُو دِي لِوِيسْ وخُوصِي يِيرُّو وغيرهم، لِيُشْعِرَ الشاعِرَ المغربي بالدونية حيث حضرت أسماء عبد القادر المقدم وإبراهيم الإلغي وإدريس الجاي وعبد الله كنون وعبد الغني السكيرج وعبد الواحد السُّلمي ومحمد الصباغ وأحمد البقالي ومحمد البوعناني وعبد القادر رشيد الناصري، ومحمد نسيم السرغيني وعبد الكريم الطبال والمنتصر الكتاني والمهدي علال زريوح وأمينة اللوه وآخرين.

هكذا بدت عقدةُ الآخر غير حاضرة على الإطلاق، مما يعني أنَّ شجرة النَّسب الشعري لهذه القصيدة قد اتَّسعت فروعُها، وأنَّ منجَزَها كان يشرئبّ إلى آفاق عالمية.

استمرّ مشروعُ "المعتمد" تسعَ سنواتٍ ما بين 1947 و1956، صدر خلالها ثلاثة وثلاثون عدداً، وكان مُبادرة فرديّة لامرأةٍ مهووسة بالشعر، وأفلحتْ في أن تجذب أصواتاً متباينة الرّؤية والحساسية والتجربة واللغة.

لكنَّ الطريف في الأمر، وهنا نعود إلى قولة بورخيس مجدَّداً، هو أنَّ القصيدةَ المغربية عرفت كيف تمسك بالفرصةَ، فدخلتْ في تجربةَ إبداع نفسها بنفسها، ثم وعت بذلك فظهرت بوادر بناءِ استراتيجيةِ حداثةٍ تتمايز جوهرياً عن القصيدة العربية التقليدية المحليَّة والعربية، لأنها أفلحتْ في أنْ تبني لها بيتاً شعريّاً، وأن تُشرِعَ نوافِذَه على جمالياتٍ جديدة ومتجدِّدة، تَستحْضر فيه نماذج من أوروبا وأميركا، بالإضافة إلى نماذج عربية متقدِّمة مثل نصوص شعراء الفردوس الأندلسي المفقود كالمعتمد بن عباد وابن خفاجة، وغيرهما وَفْقَ شرعيَّةٍ جديدة وشعريَّة متجدِّدة تَعِي خصوصيةَ لحظَتِها.

مثَّلتِ المجلّة حالة رومانسية استثنائيةً، يصعبُ أن يصدق عليها ما ذهب إليه محمد بنيس عند مقارنته بين حال الثقافة الغربية المخصوصة بالتوجه من الداخل إلى الداخل محفَّزة بالأسئلة الرومانسية وممارساتها والقصيدة المغربية الرومانسية؛ التي كانت - حسب قوله - "على العكس من ذلك، تتّجه من الخارج إلى الداخل في فترة ملتبسة هي فترة الاستعمار".

ومما لا جدال فيه، أنَّ الرومانسية كانت سمةَ شعريَّةِ "المعتمد"، لكنَّ الأكيدَ أيضاً هو أنَّ مفهوم الخارج والداخل انتفى في ضيافةِ المجلَّة التي شكَّلتْ بوتقةً انصهرت فيها تجاربُ منحت فرصة التطلّع خارج الحدود ومحاورة شعر آخر، فأصبحت القصيدةُ المغربية تحتفي بذاتها، بحيث جرُؤَ كثيرون على ترجمة قصائدِهم إلى الإسبانية مثل: عبد القادر المقدم ومحمد الصباغ وإدريس الجاي ومحمد البوعناني. بينما تكفَّل مترجمو المجلَّة مثل إدريس الديوري وبنعزوز حكيم ومحمد الصباغ بترجمة كثير من نصوص زملائهم المغاربة من العربية إلى الإسبانية.

شيّدت هذه الأسماء حائطاً متيناً اتَّكأ عليه الشِّعر المغربي ابتداء من ستينيات القرن الماضي، بعكس ما ذهبَ إليه مؤخَّراً الناقد محمد برادة في محاضرة له في طنجة، وما ادَّعاه الشاعران محمود عبد الغني وجلال الحكماوي، في حوار كان أجراه معهما شاكر نوري، حين تنكَّرا للماضي الشعري المغربي.

وذهبَ أحدُهما إلى أنَّ القصيدة المغربية المعاصرة تتكئ على الفراغ، متناسياً لحظة حضور القصيدة المغربية إلى جوار القصيدة الغربية الإسبانية والتي شكَّلتْ بنماذجها المتنوعة؛ مثل لوركا وألبيرتي وألكسندري مرجعاً للقصيدة الحديثة، ليس في المغرب وحده بل في كل البلاد العربية، ويمكن التقاط نفس هذه المرجعية تجاه الشعر الإسباني في الكثير من المشاهد الشعرية في العالم.

ضمن حضورهم في المجلة، التزمَ الشعراءُ المغاربة في "المعتمد" استحضارَ نماذج متميِّزة من الشعر العربي الأندلسي مع ترجمته إلى الإسبانية، وهو ما يُفسَّر بتوجُّه داخليٍّ-داخليّ، بغاية إبراز المشترَك الفني بين الثقافتين، وفي الوقت نفسه التأكيد على أنه في مسألة الهوية الشعرية لا تبعية للإسبان، دون إنكار لإمكان التشابك المثمر وفق رؤية متفتحة تنتسب للشعر وللكوني، وهو ما يفسِّرُه أيضاً لجوؤهم إلى ترجمة قصائد لشعراء إسبان وتعريف القارئ العربي عليهم.

وللتذكير، فإنَّ النماذج الإسبانية التي كانتْ تنشر في "المعتمد" هي نفسُها التي احتفى بها الشعراء المغاربة الستينيُّون والسبعينيّون. لكنَّ المؤسِفَ في الأمر هو عدم إفرادِ النقدِ العربي تجربة "المعتمد" -التي هي جزء من ذاكرتنا الإبداعية- حقَّها من الدراسة، لأنها تمثل لحظة حاسمة في تاريخ الشعر العربي برمّته.

ولعل أوَّل ما يسترعي انتباه المتصفِّح في متن القصيدة المغربية في المجلة هو تنوُّع الممارسة النصية، إذ أفلحت المغامرة في الخروج من ورطة الممارسة -التي كانت إلى حدود ذلك العهد- تحصر القصيدة في الشرط العروضي.

لقد تبنَّت "المعتمد" موقفاً جمالياً جريئاً، يكشف عن خلفية رومانسية أصلية، حين احتضنت القصيدة في تحقُّقها العروضي والنثري معاً، مؤكِّدة انصهار الشعر والنثر، حيث حُطِّمت الحواجز، وتمَّ رفع منسوب الكثافة الشعرية بالتركيز على كتابة شعرية تنازع الشعر التقليدي سلطته، وتطرح الكتابة خارج الوزن اختياراً جمالياً متقدِّماً.



اقرأ أيضاً: أندلس الترجمة
المساهمون