ديودونّيه.. تلك حدود الحريات

16 يناير 2015
(تصوير: غونزالو فوينتيه)
+ الخط -

كيف لنا أن نفهم ما حدث للفنان الكوميدي ديودونّيه في فرنسا؟ ابتكر شعار "أنا شارلي كوليبالي"، فوجد نفسه وراء القضبان. أليست هذه عينة من تناقضات شعار آخر هو "حرية التعبير"؟ أليست فرنسا هي ذلك البلد الذي يتباهى بعلو سقف الحريات فيه؟ أم أن الفنان الكوميدي اخترق هذا السقف أيضاً؟

إذا كانت حادثة الاعتداء الشنيعة على مقر جريدة "شارلي إيبدو" هي أسوأ الذكريات المسجلة في كراسة الاعتداءات على "حرية التعبير" في بداية سنة 2015، فإن قرار منع ديودونّيه من اعتلاء أي خشبة مسرحية كان هو أسوأ ذكريات "حرية التعبير" في بدايات سنة 2014. سنة مضت، ولم تتغير سوى الوسائل. في حادثة 2015، اعتدى خارجون عن القانون، بينما فعل ذلك "القانون" نفسُه في حادثة 2014.

لعل الجماهير بدأت تنسى قرار منع الفنان من اعتلاء خشبة المسرح، وهي تساير مشاغل أخرى تفرضها الأحداث والزخم الإعلامي. إلا أن ديودونّيه أبى أن يعيش في الظل، فانتهز فرصة الحدث الكبير ليخرج بشعار مضاد لشعار "أنا شارلي"، هو "أنا شارلي كوليبالي" الذي اعتبرته السلطات الفرنسية مناصرة صريحة للإرهاب.

ليس غريباً على ديودونّيه انتهاز مثل هذه الفرص. فقد كان يذهب بعروضه إلى الساحات العامة والباصات في باريس كلما منع من تقديم عروضه على المسرح. وحين تتالت المحاكمات ضدّه، حوّل المرافعات إلى فرصة لعرض مشاهد من مسرحياته.

ترى ماذا يوجد في شعار "أنا شارلي كوليبالي"؟ ما الذي يحرج الدولة الفرنسية في هذه العبارة؟ إن ديودونّيه في الحقيقة يفجّر كل منظومة الأفكار المتداولة اليوم من حوله حين يضرب المتناقضات ببعضها بعضاً. لقد جمع في عبارة واحدة الجلاد والضحية، كما جمعهما من قبل مسرح الجريمة. وكأنه يشير إلى أن مسرح جريمة آخر قد أُعدّ. جريمة مغالطات الرأي العام في الداخل والخارج قبل الانقضاض على أهداف مرسومة من قبل.

تشتمّ السلطة في لعبة ديودونّيه الكثير من الخبث. لقد خلط متعمدّاً الضحية المتعارف عليها بالمجرم المتعارف عليه، ليصبحا كائناً واحداً. فماذا وراء هذه الحيلة؟ هو لم يستعمل سوى الإيحاء، غير أن السلطة حين تتقبّل الأمر برد فعل مباشر، تفضح حساسيتها المفرطة لهذا الإرباك. لقد ذهبت رأساً نحو "الحل الأمني"، ولم تعرف مخرجاً آخر للتناقض الذي وضعه فكاهي في طريقها.

كشف ديودونّيه مرات ومرات من قبل أنّ "حرية التعبير" هي معادلة قوى قبل كل شيء؛ أي قبل أن تكون قيمة مطلقة كما يريد المنادون بها إقناع الآخرين. وقبل أن يتدافع المتدافعون في سوق المزايدات باسمها. كشف ذلك عبر مسيرته وعبر سيرته. وبسبب إصراره على التوغل في الجزء المظلم من "حرية التعبير"، ها هي مساحة تحرّكه تتقلص شبراً بعد شبر.

أما ما كشفته حادثة اعتقاله على خلفية إطلاقه لشعار "أنا شارلي كوليبالي"، فهو استنفار السلطة  لشراستها متى أحست بوجود من يحاول الخروج من الأطر المرسومة للتفكير، ونشر فكرة جديدة على نطاق واسع. استنفار يبدو انفعاليا وجاهزاً وميكانيكياً.

لم يفعل ديودونّيه شيئاً سوى أنه فكّر خارج الذهنية العامة. إنه يريد أن يرى الإرهاب الإسلامي من الداخل، فيعتبرون موقفه تعاطفاً مع الإرهاب. ويريد أن يكون عكس من يجتر الفهم العمومي لظاهرة الإسلام الجهادي، فيصنف رأيه صدامية مع قيم المجتمع الفرنسي.

ولديودونّيه سوابق كبيرة في اختراق سقف "حرية التعبير" في فرنسا. لن يغيب عن أذهاننا أن قرار منعه في سنة 2014 قد جاء على خلفية سخريته من "الهولوكوست". وسرعان ما صُنّف "معادياً للسامية"، ثم طفق يسخر من تهافت الهجوم عليه من قبل النخب الفرنسية جراء المس بأحد "مقدسات" الدولة والمنظومة الفكرية.

إن منع حرية التفكير، بجعل بعض زوايا النظر للحقائق ممنوعة، هو أخطر ما تقدم عليه السلطة. وها هي قد نصبت فخاخاً في كل مكان، ومن بينها ترسانة قوانين جاهزة للاستعمال، سرعان ما توقع فناناً مشاكساً مثل ديودونّيه، مرة باسم معاداة السامية وأخرى باسم مناصرة الإرهاب. نفسهم كبار المدافعين عن الحريات ينتهكونها، ويقولون: "تلك حدود الحريات.. فلا تقربوها".

المساهمون