تقدّم مسرحية "الزمن الموازي" صورة حميمة لحياة الأسرى من خلال زنزانة "رقم 4" في أحد سجون الاحتلال الإسرائيلي حيث يقبع وديع (وليد دقة) ورفاقه الأسرى. صورة تنزع من أذهاننا الصور النمطية للأسير الفلسطيني، وتصوره لنا كإنسان عادي لديه مواقف قوة وضعف، غضب وخوف، تحدٍ وصمود، كوميديا وحزن، تماماً مثلنا نحن الذين نظن أننا خارج السجن.
تبدأ القصة عندما يأتي الموسيقي والملحن مراد -الأسير الجديد- إلى الزنزانة، وتبدأ عملية التخطيط لصنع آلة عود داخل السجن للعزف عليها في حفل زفاف وديع الذي سيقام في السجن بعد تقديم طلب خاص للمحكمة بعقد قرانه؛ ليبدأ تسلسل المشاهد المتصاعدة، من تصوير "الفورة"(ساعة خروج السجناء إلى الباحة) والأيام العادية في سنوات الأسر الطويلة مع حركة الدوران المستمر على المسرح؛ دوران بعكس اتجاه عقارب الساعة ودوران آخر باتجاه عقارب الساعة في مشهد تصويري لـ"الزمن الموازي" الذي تحدث عنه وليد دقة في رسالة مُطوّلة عام 2005 إلى عزمي بشارة، بمناسبة مرور عشرين عامًا في الأسر، والتي يحكي فيها عن مفهوم الزمن والزمن الموازي داخل سجون الاحتلال: عمر زماني وعمر اعتقاليّ.
تتصاعد أحداث المسرحية من خلال التحديات اليومية التي يمر فيها وديع مع اقتراب موعد زفافه، وتوقف والدته عن زيارته لأسباب صحية، واشتداد التضييق عليه من قبل إدارة السجن لكسر إرادته؛ وصولاً إلى مشهد التعذيب الذي نجح العمل في نقله بشفافية.
نجح طاقم المسرحية في تقديم عمل ناجح يرتقي إلى تجربة ورسائل وليد دقة التي ارتكز عليها العمل، وجعل الدموع تلتمع في أعين المشاهدين في أكثر من مشهد كما أضحكهم أيضا. فالمسرحية لا تخلو من المشاهد الكوميدية والتي هي جزء أساسي من شخصية بعض الممثلين، وجزء هام من نجاح فكرة العمل.
كما أن التفاصيل الحياتية اليومية للأسرى تنجح في كسب تعاطف المشاهد بشكل فوري، وتكشف هذا العالم الذي تحاول سلطات الاحتلال إخفاءه عنا، فنقترب أكثر من المعاني الكبيرة من خلال التفاصيل اليومية البسيطة. كما يكشف العمل أن الشرطي القامع هو أيضا شخصية ضعيفة وبالإمكان رشوته لإدخال أغراض معينة للزنزانة من أجل صُنع العود، أو إدخال هاتف للزنزانة كي يستطيع وديع أن يتواصل مع فداء من الحمام.
ولعل أنجح مشاهد المسرحية هو مشهد الزفاف الختامي وحُلم وليد بإنجاب طفل يطلق عليه اسم ميلاد، فيكتب لطفلٍ لم يولد بعد تخاف منه دولة نووية بكامل ترسانتها، وتفتح له ملفًا في "الشاباك"، وتمنع وليد من الالتقاء بزوجته لإنجابه.
وفي حديث لـ "العربي الجديد" مع مُخرج المسرحية بشار مرقس يقول: "المشروع بدأ قبل تسعة أشهر بعد أن قررنا أنا وزملائي تخصيص عمل لقضية الأسرى، فقمنا في المرحلة الأولى بالبحث المطول عن الأسرى وتجاربهم، ومن خلال البحث تعرفت على الأسير وليد دقة من خلال رسائله ونصوصه وهو بالمناسبة كاتب رائع، وسألت أكثر عنه من خلال المحامية عبير بكر ومن ثم تعرفت أكثر وأكثر من خلال التواصل مع عائلته وزوجته سناء سلامة".
ويضيف مرقس: "بعد هذا تقرر أن يكون العمل عن الأسير وليد دقة، فبدأنا بعملية تحضير وبحث أوسع واطلعنا على رسائله الخاصة، وحضرنا مسودة أولى للعمل، ومن ثم ورشة أخرى لتطوير النص حتى معالجته بشكل نهائي بعد شهرين لتبدأ عملية المراجعات الأولى، وأشير هنا أن هذه العملية شملت كل طاقم العمل".
كان من المفترض أن يكون الأسير وليد دقة محررًا وحاضرًا في العرض الأول، إلا أن دولة الاحتلال لم تلتزم _كعادتها_بتعهداتها في المفاوضات بإطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى والتي تشمل فلسطينيي الـ 48. مع ذلك، كان وليد دقة حاضراً بقوة من خلال المسرحية المستوحاة من كلماته وتجربته مع رفاقه الأسرى.
رسائل الأسير وليد دقة الغنية بالتفاصيل الحميمة والمشغولة بالقضايا الكبيرة، تكشف عن ثقافة سياسية رفيعة كما في رسالته إلى عزمي بشارة، والتي جاءت بعد عشرين سنة من أسر دقة وقبل سنتين من خروج بشارة القسري من فلسطين عام 2007.
تقول رسالة دقة: "نحن لمن لا يعرف، في الزمن الموازي، قابعون فيه قبل انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي.. نحن قبل انهيار سور برلين وحرب الخليج الأولى والثانية والثالثة... قبل مدريد وأوسلو وقبل اندلاع الانتفاضة الأولى والثانية، عمرنا في الزمن الموازي من عمر هذه الثورة وقبل انطلاقة بعض فصائلها. قبل الفضائيات العربية وانتشار ثقافة الهمبورجر في عواصمنا.. بل نحن قبل اختراع الجهاز النقال وانتشار أنظمة الاتصالات الحديثة والإنترنت.. نحن جزء من تاريخ، والتاريخ كما هو معروف حالة وفعل ماضٍ انتهى، إلاّ نحن ماضٍ مستمر لا ينتهي.. نخاطبكم منه حاضرًا حتى لا يصبح مستقبلكم".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "الزّمن الموازي" اليوم السّبت (4/12) الثامنة مساءً، "مسرح الميدان"/ حيفا.
** طاقم العمل: تأليف وإخراج بشار مرقص، تمثيل: شادن قنبورة، خولة إبراهيم، أيمن نحاس، مراد حسن، شادي فخر الدين، دريد لداوي، هنري أندراوس. تأليف موسيقي: فرج سليمان. سينوغرافيا: مجدلة خوري. تصميم إضاءة: فراس طرابشة. تنفيذ ملابس ومساعدة إنتاج: غريس دعبول. تنفيذ ديكور: يعقوب جريس. بناء العود: فيليب شاهين.