أفتح عينيَّ وأدفع بحُطام اللّحاف المُتكسّر فوق جسدي، أكحُّ "تُراباً"، يبدو صباحاً مُثقلاً. تمتدّ يدي إلى القارورة، لديَّ وفرةٌ من الماء، أفصل الهاتف عن الشاحن، لديَّ وفرة من الكهرباء، أندّه على أُمّي، لا تزال على قيد الحياة، يرنّ الهاتف، حبيبتي أيضاً لا تزال حيّة.
أفتح التلفزيون فتنهال منه الجثامين، أملأ بكرج القهوة بالماء بعد تبخُّره ثلاث مرّات، وأنا أُتابع الأخبار، لديَّ وفرة من الغاز والماء والقهوة. ليس فقط غاز الطهي، لدي أيضاً وفرة في الغاز المُسيّل للدموع، أُغلق النوافذ كي لا يتسرّب المزيد إلى المنزل، لا يزال لديّ منزل، لكنّه مُعرَّض لقنابل الغاز كُلّما قرّر فتيةٌ التعبير عن غضبهم برجم البرج العسكري الذي يُمطر حياتنا بالرصاص والقنابل.
يجرّني أخي من يدي، فيسقط الهاتف، قطّته "كيتا" أنجبت ثمانية قطط والتاسعة ماتت أثناء الولادة، أنسى أمر القطّة، وأشاهد جَنين سيّدة حامل خرج من بطن أُمّه المبقور بالصواريخ، ميتاً قبل موعد ولادته بأربعة أشهر.
كُلّما فتحت قناة "الجزيرة" خرج هواءٌ بارد وثقيل، مثل ثلّاجة موتى، غير أنّ في غزّة لم يعد متّسعٌ للموتى في الثلاجات، ولا متّسع للجرحى في المستشفيات، ولا مُتّسع للحياة خارج دوائر القصف، أتجمّد على البثّ المُباشر والأخبار العاجلة، وتعجز عن ردّ القصفِ أناملي. يجرّني أخي من يدي، فأنفضها من يده وأصيح به، أنظرُ إلى يدي، ما زلت أملك يداً بخمس أصابع.
ترتفع الطائرة "الإسرائيلية" في سماء غزّة، ترمي حمولتها أميركية الصُنع، فتُشطَب عائلاتٌ من السجلّ المدني، يسحبني أخي من يدي لأرى قطّته الوالدة، أنفضها من يده، ترتفع طائرة أُخرى وترمي حمولتها أميركية الصنع فوق المستشفيات، يسحب يدي مرّة أُخرى، أصيح به، اتركني، طائرة أُخرى تدخل منزلنا ولا تغادره وتظلّ تحوم مثل "زنّانة" في رؤوسنا، وينتشر فيديو لأحد الإرهابيّين الصهاينة الناطقين بلغة عربية مكسّرة، يتوعّد بأنّ الدوْر القادم سيكون على "الضفّة الغربية"، يُمسكني أخي من يدي ويحاول بيأس سحبها، ينفد شحن الهاتف، وينتهي اليوم.
أوّل فكاك من حالة التجمّد يبدأ بتنظيم مُتابعتنا الأخبار
تُشرع القنوات لنا شاشاتها نوافذَ للحُطام، فيصبح للشظية فضاء أوسع من كيلومتر مربّع، تتطاير في وجوهنا عبر الهاتف، فنُصاب بلعنة الحُطام من الداخل، ونُسقَط في أنفسنا. في اليوم التالي أرسَل لي أصدقاء من سورية ومصر والمغرب وتونس، للاطمئنان وإبداء التضامن. يُهاتفني مذيعٌ من لبنان للاطلاع على الوضع في فلسطين عبر أثير إذاعته، بعد السؤال الثاني، شرع بسؤاله الثالث: "وأنتم تخوضون معركة ملحمية وتسطّرونَ...".
شرد ذهني وعلمت انتهاء جملته بعد دقيقة حين صمت، رددتُ عليه بقهرٍ وشيء من الانهيار: "يا أخي نحن نشعر بأنّنا معزولون، كُلّ العالم تآمر علينا، كلّ العالم يحشد ضدّنا.. أخي أُريد أن ألفت نظركم إلى مسألة، اجعلوا مسافة بينكم وبين الهاتف، مُتابعة الأخبار مُهمّة في مثل هذه الأوقات، لكنّ المتابعة بحاجة إلى تنظيم، من أجل التعامل مع الصدمة والقدرة على التفكير والإنتاج (الاجتماعي، الاقتصادي، الثقافي، … إلخ). أخي، إنّ حالتنا القُرفصائية نحن "أسرى الأخبار العاجلة" تتناقض مع مشروع التحرُّر الذي نتلهّف إليه في الأخبار، فلا نشاط ذهنياً أو رياضة عضلية تُبذَل. أوّل فكاك من حالة التجمّد يبدأ، والله أعلم، بتنظيم مُتابعتنا الأخبار أوّلاً. لمتابعة الأخبار أوقاتها، وللشارع والميدان أوقاته، اتركوا الهواتف والأخبار، وانزلوا، انزلوا، انزلوووا... صَمْت، إحم.. معذرة، انفعلت شوي".
بالأمس، قمعت "أجهزة أمن السُلطة" الناس في الضفّة، مَن خرجوا غضباً على إبادة "إسرائيل" ومن خلفها أميركا لعائلاتنا النازحة إلى المستشفى المعمداني في غزّة، صار لدينا حوالي 4000 شهيد، خلال عشرة أيام فقط.
في كُلّ ليلة ينام النّاس في فلسطين على قهر وفقد، وفي ذهنهم ومِخيالهم: السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، حين حرّر مقاتلونا محيط غزّة، وأسروا من العدوّ المئات، "لا يضرّهم من خذلهم".
* كاتب وصانع بودكاست من فلسطين