يأتي الأبناء من المستقبل

26 سبتمبر 2022
"بانتظار الجندول"، لأليساندرو ميليسي، زيت على ورق (1856-1945/ Getty)
+ الخط -

يأتي الأبناء من المستقبل. لحمُهم من لحمه ودمُهم من دمه وأقدامُهم صدىً لأجراسه. ينكتبون في بريده الإلهي كرسائل حبّ غامضة إلى عالَم فَقد موهبة الانتظار. يندفعون إلى تقليد نظراته وحركات جسده وهُم يمشون نحونا بخطوات بطيئة وبعيون ثابتة.

يأتي الأبناء من المستقبل، من وطن الاحتمالات كلّها، أو من منفاها. من البحر الذي هو مستقبَل الشعر، ومن الشعر الذي هو مستقبَل السكون. من كلّ ما يمكن أن يكون. من طفولة الكون المزمنة. من الكلام الذي لم يقله أحد. من برزخ يجتمع فيه العابر بالأبد والحسي بالمجرّد.

يرون ما لا نرى ويسمعون ما لا نسمع. يقفزون، مثل أبطال السينما الخارقين، من عمارات الغد الشاهقة، ينقذون عالمنا قبل انهياره بدقائق، ثمّ يستأنفون سيْرهم، وسرّهم، على الأرض، كأنّ شيئاً لم يحدث. كأن قلباً لم يصبح شارعاً سريعاً تتسابق فيه سماوات بسرعة الدفء. كأن جسداً لم يصبح جيشاً من العذوبة يحرّر الهواء من زفير إثْر زفير ويوحّد الكينونة المنقسمة تحت راية المياه العائدة إلى نبعها.
 
يختار ابنٌ والدَيه كما يختار صوتٌ حنجرتَه وحنينٌ قصب نايه. البنوّة بيت يسكن نوافذَه، جسر على نهر بلا ضفاف، قلب يختمر في فم الوجود الملطّخ بحليب الأسئلة، فعل مستقبلي مبني للمجهول، وللمستحيل وللمشتهَى. يبني الابن حياته وذاته من مواد نادرة لا تُستخدم إلاّ في تشييد القصائد. هناك حيث يستنجد الأفق بسفينة ويسترشد الطريق بوردة في مهبّ الريح، وتمضي حياة عزلاء بشجاعة الثوّار الحالمين إلى مصيرها المحلوم.


(شاعر واختصاصي نفسي عِيادي من فلسطين)

موقف
التحديثات الحية
المساهمون