تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة سريعة حول انشغالاتها الإبداعية وجديد إنتاجها وبعض ما تودّ مشاطرته مع قرّائها. "لا يستقيم أمر عالمنا، ولا يتحقَّق ما نطمح إليه، ما لم نحتكم إلى قيم العدل والحرية والمساواة"، يقول الباحث الجزائري في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- يشغلني أمران: أمرٌ خاصٌّ بأبحاثي التي تدور حول قضايا الفلسفة الاجتماعية، ومنها ورقة بحثية حول الثورة الجزائرية التي قدّمتُها في نهاية شهر أيار/مايو في المؤتمر الذي نظَّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، وأحاول أن أطوِّرها بناء على بعض الأسئلة التي طُرحت عليَّ في المؤتمر، واستكمالاً لبعض الجوانب التي لم أتمكّن من دراستها دراسة وافية. وأعمل على ترجمة كتاب: "فلسفات التعدُّدية الثقافية"، وهي دراسة تحليلية ونقدية لمختلف نظريات التعدُّدية الثقافية المعاصرة. وأمّا الأمر العام، فيتمثّل في حالة العالم، وما يشهده من هشاشة وصراع واستقطاب، ومخاطر الانزلاق نحو الهاوية. إذ تبدو القوى الفاعلة والغالبة في هذا العالم، قد فقدت صوابها، ولم تعد معنيّة إلَّا بمصالحها وتفوّقها على حساب كلّ القِيم، وعلى رأسها قيمة الحياة الإنسانية.
■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟
- صدر لي قبل نحو شهر ترجمة لكتاب الفيلسوف الأميركي المعاصر تشارلز لارمور "الحداثة والأخلاق"، عن دار "صوفيا" بالكويت. وتُعَدّ مسألةُ الحداثة في علاقتها بالأخلاق من أعقد المسائل الفلسفيّة المُعاصرة، سواء على مستوى الفكر الفلسفي العالمي أو على مستوى الفكر العربي المعاصر الذي يُواجه هذه المسألة منذ ما سمّاه خطاب النهضة العربية بضرورة اللحاق بركب الحضارة "الغربية". ولعلّ من مظاهر هذا التعقيد، أنَّ الاعتقاد السائد إلى وقت قريب، وهو أنَّ الحضارة الغربية التي نحاول "اللحاق بها"، تصدر عن أخلاق حداثية واحدة ومُجمَع عليها، ولكنّ واقع الفكر الفلسفي الغربي المعاصر، لم يعد يقدِّم هذه الصورة الواحدة والمتناغمة، وخيرُ دليل على ذلك هو هذا الكتاب الذي يحاول فيه الفيلسوف تشارلز لارمو أن يجدَ الحدّ الأدنى لتلك الأرضية الأخلاقية الحداثية التي تُصارع ضدّ أخلاق ما قبل الحداثة باسم الجماعة والتراث، وتشخّص في مواقف الجمعاتيِّين، وأخلاق ما بعد حداثية باسم الفردية والمتعة والحرية، وتظهر في مواقف الليبرالية الجديدة أو الليبرتارية.
أحاول قدر الإمكان النظر في ما أنجزته بعين ناقدة
وسيصدر لي في نهاية هذا الفصل كتاب بعنوان: "السياسة الحيوية من منظور الفلسفة الاجتماعية" عن دار "سؤال" بلبنان، يضمّ مجموعة من الدراسات التي أنجزتها في السنتين الماضيتين، إمَّا تلبيَّة لدعوة من مؤسَّسات علميَّة وأكاديميَّة، أو محاولة منِّي للمشاركة في النقاش الثقافي والفلسفي الذي يهمين عليه موضوع جائحة كورونا. ويعرف مفهوم السياسة الحيويَّة حضورًا مكثَّفًا في معظم الدراسات والبحوث والمناقشات التي تناولت هذه الجائحة. ولقد حاولتُ التوقُّف عندها، وتحليلها، ومناقشتها، ونقدها، وخاصة ما تعلَّق بمفاهيم المرض، والجسد، والعدالة الصحية.
■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك، ولماذا؟
- الرضا مسألة نسبية للغاية. وشخصيًّا أحاول قدر الإمكان النظر في ما أنجزته بعين ناقدة، وبعض نصوصي التي نشرتها أعدتُ كتابتها، وأولهم كتابي عن "الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو" الذي صدرت طبعته الثالثة في بداية هذه السنة عن دار "الروافد". وأعمل جاهدًا على تدقيق بقيّة كتبي التي نشرتها قبل إعادة طباعتها من جديد. وما يزيد من حالة عدم الرضا، هو أنَّني لا أشعر بأنني قدَّمت ما أنوي تقديمه حقًّا. فما تزال جملة من الأسئلة والقضايا والمواضيع تشغلني، وخاصة تلك المتعلّقة بالهوية، والدين، وأبستمولوجيا العلوم الإنسانية والاجتماعية. لذلك كلِّه، فإنَّ حالة الرضا، ما تزال حالةً مأمولةً أكثر منها حالة متحقِّقة، ولكن مع ذلك يجب أن أعترف به، أنَّ ما أنجزته يشكِّل دافعًا قويًّا للاستمرار في عملية تدقيق وتطوير عملي البحثي.
■ لو قيض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟
- سأختار المسار نفسه. أقصد مسار الفلسفة، والبحث الفلسفي، والترجمة الفلسفية. إنَّ من بين الأشياء التي تسعدني في هذه الحياة اختياري لمساري العلمي. بالطبع يمكن استبعاد بعض الجزئيات، وتفادي بعض المطبَّات، ولكن في المجمل فإنَّ مساري العلمي والأكاديمي سيكون هو نفسه: أستاذ جامعي وباحث أكاديمي.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- أمرٌ مشروع أن ننتظر ما يناسبُنا ويسعدنا في هذا العالم المتغيَّر والمتقلِّب. ولكن يجبُ الإقرار أنّ التغيير الذي ننتظره يجب أن نسهم في إنتاجه وصناعته أو إحداثه. وما يعرفه العالم من صراع واستقطاب، يفرض علينا أن نعمل ضمن المواقع التي يحتلّها كلّ واحد منَّا من أجل تحقيق قدر من الاستقرار، والسلام، والعدل. فلا يستقيم أمر عالمنا، ولا يتحقَّق ما نطمح إليه من نمو ورخاء وازدهار، ما لم نحتكم إلى قيم العدل والحرية والمساواة.
القوى الكبرى فقدت صوابها وهي غير معنيّة إلّا بمصالحها
■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- هنالك أكثر من شخصية فكرية وأدبية أودُّ الالتقاء بها، وفي مقدمتها أبو حيان التوحيدي، وابن خلدون، وابن عربي، لأسباب كثيرة، أهمّها موسوعيتهم، وإبداعهم، وإنسانيتهم، وحضورهم الدائم.
■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
- الكتاب الذي أعود إليه في الوقت الحالي هو كتاب "المقدمة" لابن خلدون الذي يكاد لا يفارقني منذ مدّة. أمَّا الأصدقاء، فإنني أتواصل دائمًا مع مجموعة من أصدقائي، ومنهم صديقان عزيزان: صديقي في الدراسة رابح يونس أستاذ الفلسفة بـ"جامعة قسنطينة"، وهو شاعر يهوى كسر القواعد، ومولع بالجديد، ويمتلك روحًا متمرّدة. وصديقي في البحث الفلسفي الباحث رشيد بوطيب الذي أتقاسم معه هموم ومسائل الفلسفة الاجتماعية.
■ ماذا تقرأ الآن؟
- أقرأ من جديد كتاب كوينتن سكينر "أسس الفكر السياسي الحديث: عصر النهضة"، ورواية أمبرتو إيكو "اسم الوردة".
■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- الموسيقى والغناء حاضرة في حياتي اليومية. أسمع الغناء في تنقلي، والموسيقى عندما أُنجز بعض أعمالي الجامعية. ولكن عندما أشرع في القراءة أو الكتابة، فإنَّني أفضل الهدوء. وأستمع إلى أنواع كثيرة من الموسيقى والغناء، ولكن الغناء العربي الشرقي هو أكثر ما أستمع إليه مقارنة بالغناء الغربي، وأستمع كثيرًا للغناء البربري/ الأمازيغي، خصوصاً للمطرب والشاعر لونيس آيت منقلات، وأغنيته المشهورة "آمّي" (يا ابني)، والغناء الشعبي الجزائري، وخاصة الحاج محمد العنقة في كل أغانيه، ومنها "المكناسية".
بطاقة
باحث وأكاديمي جزائري، يعمل أستاذًا للفلسفة المعاصرة في "جامعة الكويت". من مؤلّفاته: "الإسلام والحكم: دراسات في المسألة السيَّاسيَّة في الفكر الإسلامي المعاصر" (2019)، "اللغة والسلطة: أبحاث نقديَّة في تدبير الاختلاف وتحقيق الإنصاف" (2017)، "الهوية والتاريخ: دراسات فلسفيَّة في الثقافة الجزائرية و العربية" (2015). وفي الترجمة له: "مدخل إلى الفلسفة المعاصرة"، لـ مارك لوني (2020).