وضاح أبو جامع: حربٌ غريبة على رصيف غزّة

07 ابريل 2024
طفلان فلسطينيان يجلسان على أنقاض مبان دمرها الاحتلال في رفح، 4 نيسان/ أبريل 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- "عالم محقون بالبوتوكس" هو الإصدار الأول للشاعر وضاح أبو جامع، يعبر فيه عن اعتراضه الشامل على الواقع المحيط به، مستخدمًا الغضب واللوم والذنب كأدوات للتعبير.
- يستخدم الديوان السخرية بشكل أساسي لنقد العالم، مع تخلل لعب بالألفاظ والأفكار والمفارقات، مما يعكس الصراع الداخلي والتناقضات التي يعيشها الشاعر.
- يتناول الديوان تجارب الشاعر الشخصية بدرجة عالية من الإفصاح، متطرقًا إلى مواضيع مثل الحرب والحب والحياة اليومية، مقدمًا صورة شاملة عن تجربته الحياتية والشعرية.

"عالم محقون بالبوتوكس" الصادر عن "دار راية"، هو الديوان الأوّل لوضاح أبو جامع، شاعرٌ من غزّة، غادرها ويقيم الآن في بلجيكا. الديوان الأوّل هذا يبدو، وربّما لذلك عبارة عن فورة عارمة. إذا كان هناك من ميزة ملحوظة للديوان، فهي ذلك الغليان الذي يقف على حافة الشعر. بل، ونحن نقرأه، لا نجده يقذف بأشيائه في وجوهنا، يلقي باعتراضه الشامل أمامنا. حين نقول اعتراضه الشامل، نعني أنّه، بدأ من نفسه وعائلته وحبيبته وبلده ومقدّساته، لا يوقّر شيئاً ولا يقبل شيئاً، ولا يقدس شيئاً، بل ينهال على كل ذلك بالنعي والاستنكار، بالغضب واللوم والذنب. 

إذا كانت هناك مزية لهذا الشعر فهي السخرية، السخرية التي قلّما تكون نكتة أو طرفة، قلّما تبعث على الضحك أو التندّر. سخرية وضاح أبو جامع هي، بالدرجة الأولى، السلب الخالص، النفي المطلق، الاستهانة الكاملة، الهجوم الذي لا يخلو من نكران، لا يخلو من زراية، كما لا يخلو من عبث أحياناً، من لعب بالألفاظ والأفكار، ومن كراهية. كما أنه هجومٌ مركّب إذا جاز القول، ففيه إلى هذا اللعب، درجة من المفارقة، ومن الازدواج، ومن النكتة الباردة.

"أنا الملعقة / التي تلتحق بالكثرة/ والصحن الذي ينكسر في يد الخادمة / وفي كلّ حزن / لست سوى الغراب / المطلّ على الأفراح المخّبأة / أنا أيّتها العوائل/ ضيف الغفلة".

عدمية تصل إلى حد نفي الذات، إلى اعتبارها هباءً 

مع ذلك فإن ديوان وضاح أبو جامع، قريب للغاية من اليوميات. إنّه يكتب بدرجة عالية من الإفصاح والوضوح، يمكننا أن نتكلم هنا عن درجة من المباشرة، قد يزكّيها، أو يخفّف من صداها ووقعها، ذلك لعب بالأفكار، والتوليد من المفارقات، والنهايات اللاعبة، والازدواج الفكري واللغوي، بحيث نشعر بأنّ الديوان بكامله قريب من المذكرات، بل هو، على نحو ما، سيرة. حين نتصّفح الديوان نشعر بأنه مقسّم بترتيب على مستوى الحياة الشخصية. القسم الأول" "طلاق مبكر وفي مدينة تقع على شواطئ المخابرات". 

المدينة هذه، كما يرد اسمها أحياناً، هي غزّة نفسها. نبدأ بمقطع يردّنا إلى الحرب، ليست بالضرورة الحرب الراهنة، فغزّة تقترن باستمرار في أذهان أهاليها بالحرب "اخرجوا من الملّة يا الله/ كلّ الذي فعلناه / أنّنا وجدنا حرباً غريبة / على رصيف المدينة/ ورددنا عليها بالسلام". ليس هذا المقطع وحده يحيل إلى أحداث اليوم، في مقاطع غيره نجد باستمرار الإحالة نفسها، بحيث نشعر بأنّ هذا الجزء من الديوان  يتناول غزّة في حربها الراهنة.

غلاف الكتاب

 
نقرأ عن الأطفال ما ينقلنا إلى ذلك "الطفل الذي قُصفت عائلته / كان يلعب بعيداً عن فِناء المنزل / لا يعرف أنَّ للحرب طائرة / يجلس الآن على كرسي متحرّك / ظناً منه أن كلّ هذا الغبار/ خلّفته أصابع الطباشير/ التي رسم بها طائرته الورقية". لا يهم إذا كان هذا الشعر عن اليوم أو الأمس، فالأغلب أن يوم غزّة كأمسها، وما يتكلم في الأمس يصح أن يقال اليوم، هذه الحرب الدائمة والدمار المستمر.

لكن وضاح أبو جامع لا يتوقف عند غزّة، إنّها يومياته في غزّة وفي غيرها. إنّه الشعر الذي يكاد يكون اعترافاً، بما يشبه المباشرة أيضاً، اليوميات والمذكرات. ينتقل الشاعر إلى نفسه، إلى يومياته، بلّ إلى الحبّ الذي يتلقّى أيضاً سخريته ولعبه بازدواج اللحظة ومفارقتها "نظرة عابرة منك / إبرة ستصدح ضجيجاً / حين ترمى في كومة القش / التي تسمّى قلبي".

الحب هنا تنكشف مفارقاته، وازدواجه وعمقه المكسور، لكن ليس الحبّ وحده هو الذي يظهر، بل هو يظهر في سمته اليومي، في لعبه الداخلي، إلى جانبه هناك الحياة اليومية، التسكّع، السينما، "غوغل". الحياة الجارية هذه لا تتلقّى سخرية أقل من غيرها، إنّها تتلقّى نصيبها من السلب والنفي، من السخرية، بحيث يصل الأمر أحياناً إلى ما يشبه الإعدام.

إذا كان هذا السياق المتهكّم الساخر هو ديدن المقاطع كلها، فنحن هنا أمام لون من العدمية، لا تكفّ عن شيء، بل إن هذه العدمية تصل إلى حد نفي الذات، إلى اعتبارها هباءً ولا شيء. "يسأل الكثيرون عن كوني حزيناً/ إلا أنه وجهي الذي يبدو كذلك / ليس أنا".
 

* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون