فجرَ الثلاثاء الماضي، غادر عالمنا الشاعر الكوسوفي المعروف آدم غاشي Adem Gashi، ووري الثرى بعد ظهر اليوم نفسه بناءً على رغبة عائلته، وهو ما شكَّل مفاجَأة حزينة لمحبّيه ومتابعيه، نظراً لما يُمثّله في الأدب الكوسوفي المُعاصر، بعد قرابة خمسة عقود أبدع فيها الكثير في الشعر والقصّة والرواية.
وُلد آدم غاتشي في قرية نيكوفتس بمنطقة درنيتسا القريبة من العاصمة بريشتينا في الثامن عشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر 1953، وتخرّج من "دار المعلّمين"، ليعمل في التعليم قبل أن يتابع دراساته في قسم اللغة الألبانية وأدبها في "جامعة بريشتينا"، ويتنقّل بين العمل في الصحافة المكتوبة والتلفزيون.
برز اهتمامُه بالشعر مبكراً، قراءةً وكتابة، حيث نشر أوّل قصيدة له بعنوان "الربيع" عام 1966، بينما توجَّه، بعد بروزه كشاعر، نحو القصّة والرواية، ليترك نتاجاً غنيّاً فاز معه بعدّة جوائز أدبية؛ كان آخرها "جائزة حازم شكريلي" التقديرية عن مجمل أعماله في 2022، التي تُعتبر أرفع جائزة أدبية في كوسوفو.
انشغل بمصير فلسطين ونعى سقوط الضمير في "أعماق الأطلانطس"
وقد تُرجمت أشعاره إلى عدّة لغات، كالإنكليزية والألمانية والصربوكرواتية والرومانية والفنلندية والتركية وغيرها، وكان سعيداً بترجمة بعض قصائده إلى العربية ضمن "مختارات من الشعر الكوسوفي المعاصر" التي صدرت العام الماضي في عمّان بترجمة محمد م. الأرناؤوط.
يُمثّل آدم غاشي الجيل المخضرم من كتّاب كوسوفو، أولئك الذين وُلدوا في يوغوسلافيا التيتوية، وتلقوّا تكوينهم الثقافي الأوّل ضمن مدارسها، ثم عاشوا خيارات الهوية في العقود اللاحقة. فبعد رحيل تيتو عام 1980، انحاز إلى "الربيع الكوسوفي" في 1981، الذي طالب بأن تكون كوسوفو جمهورية كغيرها من الوحدات الفدرالية في يوغسلافيا، وهو ما جعله يتعرّض للاعتقال والسجن والمنع من النشر خلال عهد سلوبودان ميلوشيفيتش (1986 - 1999)، الذي ألغى الكيانية الكوسوفية كوحدة فيدرالية مؤسِّسة للاتحاد اليوغوسلافي. وقد دفعه ذلك إلى النشر بأسماء مستعارة، ثم اللجوء إلى ألبانيا المجاورة؛ حيث عمل مديراً للقناة الفضائية الألبانية بين سنتَي 1996 و1999.
بعد حرب 1999 وإرساء الإدارة الدولية في كوسوفو، برز اسم غاشي في المجال الثقافي؛ ففي تلك السنة، أصبح مديراً للتلفزيون الكوسوفي وانتُخب رئيساً لاتحاد الكتّاب لدورتَين (2001 و2005)، وأسّس الفرع الكوسوفي لنادي القلم "بن" في 2002. وبعد استقلال كوسوفو عام 2008، عمل مستشاراً لوزير الثقافة في 2002، ثمّ مديراً للاتصال في وزارة التجارة حتى تقاعُده في 2018.
لفت غاشي أنظار النقّاد منذ مجموعته الشعرية الأُولى "دون مظلّة" (1982)، والثانية "تمهيداً لسيرتي الذاتية" (1985)، ليستمرّ بعدها في إصداراته الشعرية التي وصلت إلى 15 مجموعة؛ آخرها "الأنطولوجيا السوداء" (2019).
علماء آثار الآلام عبثاً يحاولون أن يُخفوا جروح الأرض
وبالإضافة إلى الشعر، نشر غاشي ثلاث مجموعات قصصية: "موت العمّ" (1987) و"حمامة السلام" (1989) و"السفر الأخير" (2002)، وروايتين: "من الألف إلى الياء: بروق تشرين الثاني" (2005) و"اليوم الأخير للحياة" (2013).
كذلك نشر الكثير من المقالات الأدبية في الصحف والمجلّات. وبالإضافة إلى ذلك، اشتهر بتحريره للأعمال الشعرية، حتى إنّ المجموعات الشعرية التي حملت توقيعه كانت تحمل قيمةً مضافة لأصحابها.
في مجمل حياته ونتاجه، عُرف بروحه الإنسانية وانفتاحه على العالَم، وخصوصاً على الشعوب التي تُناضل في سبيل الحرية والدولة الوطنية. ومن ذلك اهتمامه بمصير فلسطين وما آل إليه الشعب الفلسطيني، كما في قصيدته "اكتشاف الأطلانطس" المنشورة عام 1985، التي نعى فيها "سقوط الضمير في أعماق الأطلانطس". واهتمّ أيضاً بالحرب الدائرة في سورية، وخلّد ما حدث في حلب بقصيدة في 2017.
كذلك فإن ترجمة مختارات للشاعر الفلسطيني نجوان درويش بالألبانية عام 2021 جعلته ينشر نصاً من أفضل ما كُتب عن الشعر الفلسطيني الذي يحمل هموم شعبه وغيره من الشعوب المُحبّة للحرية والمناضلة في سبيل التحرّر، وسرعان ما ألحقه الناشر بالكتاب ككلمة احتفاء في خامته.
هنا قصيدتان لآدم غاشي بتوقيع المترجم محمد م. الأرناؤوط.
اكتشاف الأطلانطس
في البدء كان يسود الاعتقاد
بوجود الأطلانطس
في وقت ما في مكان ما
استمرّ اللغز في مسار الحياة
أصبح عبئاً على الإنسانية
تُواصل التنقيب عنها في الزمان والمكان
أخذت تظهر وتختفي
ظلال الشكّ
حيرة الكوكب مَرَضٌ:
في البدء كان الفكر
بحثوا عنها في قاع البحار والمحيطات
في عظام الأرض الموبوءة
ولم يبق مكان لم يبحثوا فيه
من بدء بداية الزمن
إلى آخرة نهاية الزمن
لأن المجال كان ضيّقاً جدّاً
في أحد الأيام
أعلن الأطبّاء عن خبر مفاجئ
أن الأطلانطس مجرّد كابوس
لا شيء آخر
لم يجدوا أيّ أساسات أو آثار
في أيّ مكان
فيما بعد وصلوا إلى أعماق بحر متجمّد
بحر مالح
بحر ميت
حين كانت الحياة تفشل فينا
في أعماق بحر أصفر
بحر أسود
بحر أحمر،
والبحر الأزرق...
أخيراً أقرّوا بالفشل
عادوا لأنفسهم
بحثوا عميقاً في ضمائرهم
التي لم توجد أبداً
في بداية البدايات
فلسطين
علماء آثار الآلام عبثاً يحاولون
أن يُخفوا جروح الأرض
يلحسون تضاريس الأرض التي يغطّيها الشيب
في بُعد جديد للزمان والمكان
يحدث الآن نزيفُ دم لشعب
دون تعليق من الطبّ الحديث
في كلّ مكان
في عمق الضمير الإنساني
في البدء كان العمل ثمّ التفكير في اللغز
لأنّ الضمير كان قد سقط
في متاهات الأطلانطس.
(من مجموعة "تمهيداً لسيرتي الذاتية"، 1985)
■ ■ ■
مدينة
في وقت ما
كانت هناك مدينة حيّة
بكلّ شيء، بأطفالها في الشوارع
يمرحون ويبتسمون
كانت هناك مدينة
حتى البارحة
ولم تعُد موجودة
الآن الحطام في كلّ مكان
قد يبدو جروٌ مجروح يجرجر نفسه
لوحة تختلط فيها الدماء والغبار
لوحة معبّرة في أروقة الأمم المتّحدة
حيث السادة
يتفاوضون حول السلام
التفاوض حول السلام
يأتي بعد قتل الأبرياء
بعد تغميس ابتسامات الأطفال
بالدم
في وقت ما
كانت مدينة
حيث كانت الحياة تفور على السطح
الآن لم تعد هناك مدينة
هناك سلام!
حلب، كانون الأوّل 2017
(من ديوان "غزالة شاردة في الشتاء"، بريشتينا 2018)