استمع إلى الملخص
- الفقد يؤلم بشدة، حيث يقطع الصلة مع الأحبة ويؤثر على الزمن والمستقبل، مما يحرم الناس من حقهم في الحياة والتطور.
- نشعر بالعجز والحزن كمشاهدين، ونتساءل عن إنسانيتنا، ويبقى الأمل في الله هو العزاء الوحيد في مواجهة هذه الصعوبات.
كثيرون منّا أصبحوا يقولون إنه ليس بمقدورهم مشاهدة الأخبار، وخصوصاً تلك التي تتوالى بالمصائب والأحداث المأساوية التي تتسبّبُ بها الصهيونية العالمية لأهل غزّة ولبنان. يطفحُ التلفاز بمناظر مؤلمة لنساء وأطفال وشباب وشيوخ وقد استفحل الهمُّ والحزن في أرواحهم، فتراهم يبكون وينهارون، وخصوصاً مع غياب الآفاق بأيّ انفراجةٍ مُمكنة. وملامح وجوه أهل غزّة تفيضُ بعمقِ الألم الذي حلَّ بهم. فما يجري هناك هو بلا شكّ "أُمّ النكبات".
فقد تحوّلت الحياة إلى بحث مُضنٍ عن كلِّ شيء من أجل البقاء والحفاظ على النَّفْس وسط استمرار الموت والدمار الشديدَين، بحثٌ عن الماء والطعام، والرضا بأقلّ القليل من فُتات الحياة القاسية. تتحمّل في هذا الأُمّهات والآباء هموماً لا تقوى الجبال على حملها، فيُكابدون من أجل توفير ما يُمكن توفيره في بيئة شحيحة ومعدومة كهذه لكي يبقى أهلُهم وأطفالهم أحياء، فعسى أن تأتي أيام أفضل وحياة تستحقُّ لفظة الحياة.
وأكثرُ ما يُؤلم هو الفقد. الفقدُ يوحي بالغياب، وقطع الصلة مع الأحياء الأحبَّة، وفي هذا ذروة المأساة، ففيه وقفٌ للذكريات والودّ الدفين الذي يبعثُ الطمأنينة والسكينة والعون والسند وإمكانية البناء والتطوّر في المستقبل. فقد مثل هذا هو مجزرة بحقِّ الزمن والحقّ في الحياة والمستقبل.
رأيتُ امرأة عادت للتوّ من السوق في مُخيّم الشاطئ شمالي القطاع، وهو حيٌّ يتعرّضُ لإبادةٍ صهيونية ممنهجة يسقطُ خلالها المئات من الناس قتلى وجرحى، ومَنْ يُجرَح فهو في حالة خطرٍ شديد وتهديد بالموت في ظلِّ غياب العلاج والدواء. عادت تلك المرأة الفلسطينية من غزّة ذات الوجه النضر والطلّة البريئة وقد وجدتْ كل عائلتها "عائلة شبات"، من زوجها إلى أطفالها، قد أُبيدوا واستُشهدوا إثرَ آخر قصفٍ صهيوني على أهلها وأحبّتها. راحتْ تلك المرأة المعذّبة بهذا الفقد الموحش الكبير تصرخُ وتصرخُ، يكادُ جسدها المعذّب يطيرُ إلى السماء، يستنجدُ الأرض ألّا يكونَ الواقع حقيقة.
إذن هو الفقدُ، وجعٌ لا حدَّ فيه من قسوة ومن مُساءلة للنفس
لا أعتقد أنَّ هناكَ لغة أو أيِ شيءٍ قد يعبّرُ عن هذا الفقد المدوّي، وقد تجرّعتْ مرارتَه آلافُ النساء والأطفال والرجال في غزّة، وفي لبنان أيضاً. إنّه فقدٌ يسلب الروح أي معنى للبقاء. يحتضنُ الأحبَّةُ أحبَّتهم وهُم في أكفانهم على الأرض، وتفيضُ أرواحهم بالدموع وتتهالك أجسادهم بالحسرات، وتتعمّقُ في وجوههم ملامح الفاجعة.
أما نحن الذين نُشاهد ونتابع مُجريات الأحداث والسياسة الدولية فتنعقدُ ألسنتنا، وتتحلّلُ قريحتنا حزناً حين نرى أجمل الناس وألطفهم وأجدرهم بالحياة يُحكم عليهم بالموت والدّمار بلا هوادةٍ، وبأقسى أشكاله قصفاً وجرحاً وجوعاً وعطشاً وهمَّاً، بينما الفضاءات التي نعيشُ فيها تعجُّ بالتواطؤ المُخزي مع أحقر الأيديولوجيات وأكثرها خِسّة ودناءة، أو الصمت المريب أمام أكبر فاجعة في القرن الواحد والعشرين. نتسائل في قرارة أنفسنا إن كنّا بشراً، ونتأمّل معنى أن نكونَ كذلك في ظلِّ مهلكة كهذه، وإن كانت ذاكرتنا ستشفى من هذا الفقد الأليم المُتكرّر، وإنْ كانت إنسانيّتنا ستحيا أبداً بلا شقاءٍ وبلا تلوّث رهيب بعد كلِّ هذه المشاهد والمشاعر المؤلمة التي تعتصرنا وتؤثّرُ بلا شكّ على سلامة عقولنا وخيالاتنا وقدراتنا.
نحنُ المتفرّجون لسنا ضحايا كما أهلنا هناك، أهلنا في غزّة والضفّة ولبنان، فهؤلاء من ضاقت عليهم الأرض وفاضت بدمائهم البريئة. نحنُ أقاربٌ لهم، وكلانا أهلٌ للآخر. الفقدُ نصيبنا جميعاً، وفي هذا الفقد ما يجعلنا نتفقّدُ كينونتنا بصفتنا بشراً لا نرضى لأنفسنا ما لا نرضاه لهم.
إذن هو الفقدُ. وجعٌ لا حدَّ لما فيه من ألمٍ ومن مُساءلة للنفس عن مآلاتها أمام أقسى التعاسات في القدر وأشدّها مرارة في الأيام.
وأختُم بما دوّنته بنت أخي المُمرّضة ياسمين الشاعر على صفحتها الفيسبوكية، وهي روحٌ تسنتطقُ الألم الضارب في أرواح أهل غزّة الأبطال المساكين: "أنت حيثُ الآن والماضي والحاضر واقفٌ وخلفكَ طريقٌ طويل مليء بالأشواك، قد قطعت أميالاً طويلة فيه لتكتشفَ نهايته أنك لم تصل، وتمّت إعادتُك لنقطة الصفر لتمشي طريقاً مليئاً بالخيبة، لولا استعانتُك بالله لكُنتَ اللّاشيء المستمرَّ باللّانهائية واللانتيجة فقط، دون جدوى تهدرُ وقتك وصحّتك، تشعرُ كأنّك آلة الزمن، صُنعت فقط لتركض وتركض وتركض لا وقت لها للوقوف، وقوفُك موتك. نحن الآن نعيش الأمرّين، لا عيشاً كريماً ولا سبيلاً".
وأضافَت: "الجوع يصرخ من كلّ مكان، الناس عُراة لا حول لهُم ولا قوّة غير الله. كلّ شيء أمامك مُخادِع، كلّ شيء غير منطقي لا أساس له من الإنسانية. نحن نقهر الموت ليس القبر فقط. الموت أن ترى نفسك في البقعة نفسها رغم كلّ السعي. أنتَ هنا في الخيمة اللعينة. تهزمك الذكريات والحنين. افتح عينيك، سقفُك مكسور ومهترِئ، تعيش مع الفئران وكأنها جزءٌ من العائلة. طعم الرمل مألوف، فأنت - لا شكّ - تعيش فيه وعليه ومنه. أنت اللّاشيء، اللانهائية، الوجع المستمرّ، كافح وقاوم لا أعرف كيف ولكن حاول".
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن