قال الناقد الإنكليزي غراهام هو في كتابه "مقالة في النقد": "القرّاء الممتازون لا يخربشون على هوامش المجلّدات الشعرية عبارات 'صحيح جدّاً' أو 'سخيف ومضر بالأخلاق'". والجملتان تُشيران، كما يوحي الناقد، إلى إصرار بعض القرّاء على أنهم هم مَن يملكون الحقيقة. يسمي غراهام هو هذا الأمر صعوبات الحقيقة.
ففي الرواية تنشأ إحدى "صعوبات" الحقيقة من أن معتقدات القارئ قد لا تتطابق، أو لا تتفق، مع معتقدات الكاتب، وعندئذ يمكن للقارئ، وهذا ما يحدث كثيراً، أن يطلق أحكاماً مختلفة على مضمون النص الروائي، وهناك مَن يتّهم الروائي بالكذب، أو تزوير التاريخ. وكلمة "صعوبة" التي يستخدمها الناقد الإنكليزي في كتابه هي المفردة الأكثر سلاماً وأمناً في مجال العلاقة بين القارئ والنص.
ولكنّ السؤال المحيّر هو: أين الحقيقة؟ ومَن يملك اليقين بأن ما يقوله، أو ما يفعله، هو الحقيقة؟ أو أن هذه الرواية تقترب من الحقيقة، أو لا تقترب؟ فالحقيقة هي أكثر المفاهيم التباساً في الحياة البشرية ــ وأكثر التباساتها كامنٌ في أن الناس يستطيعون دائماً أن يفكّروا أو يعتقدوا أن الأفكار والتفسيرات التي يقدّمونها لتوضيح مواقفهم تجاه أي أمر، تمثّلها.
ويمثّل النظام السياسي الذي ابتكره جورج أورويل في روايته "1984" ذروة الميل إلى اعتبار الحقيقة واحدةً، أو أن الحقيقة الوحيدة هي التي يقولها، ولهذا فإن رجال الأخ الأكبر يُجبرون ونستون سميث على الإقرار بأن 2 + 2 = 5 وليس أربعة، كما كتب في مفكّرته، أو كما هي الحقيقة الرياضية البسيطة.
وأكثر الأمور غرابة أن يجادل المؤرّخُ الروائيَ في أمر إحدى الوقائع، فالروائي لا يكتب التاريخ، ولا يعود المؤرّخون إلى أيّة رواية، ولا يعتبرونها مرجعاً في الحقائق التاريخية. ولم يحدث أن كُتب تاريخ اسكتلندا مستمَدّاً من روايات والتر سْكوت، بل إن سْكوت استعاد التاريخ في صورة روائية، وقدّم أجزاءً منه كما أراد أن يكون، أو كما افترض أنه قد يكون. وليست مسرحية شكسبير "هنري الرابع" مرجعاً في تاريخ الملك نفسه، ولا أحد يقول لشكسبير "أخطأت هنا"، أو "أصبت"، ويمكن ألا يكون أي من أحداث المسرحية قد حدث في زمن هذا الملك.
ولا يمكن أن نحاسب المتنبّي في ما إذا كانت الحقيقة حاضرة في قوله: "وسوى الروم خلفك ظهرك روم"، وربما كان هو نفسه مقتنعاً بوجود متآمرين في بلاط سيف الدولة، بينما كان الحاكم غافلاً، وربما لم يكن يصدق الشاعر، ولكنّ الشطر الشعري استطاع أن يتجاوز اللحظة ويصبح أمثولة أو حقيقة أخلاقية وفلسفية تطاول حياة البشر.
وينجم عن الصراع في سورية تعدّد في السرديات، أي في تقديم الحقائق. وإذا كان يبدو في السياسة صريحاً وواضحاً، فإنه يتخفّى في الرواية ويتنكّر وراء الحكاية، والواقعة، والأفراد، دون الوفاء للفنّ في مرّات كثيرة. وفي الغالب، فإن المشهد الروائي يقدّم حتى الآن صراعاً قائماً على نفي الآخر وسرديته، أي رفض الحقيقة التي بحوزته.
* روائي من سورية