هنري كارتييه بريسون.. ما رأته عين القرن

24 فبراير 2022
خلال ثوَران بركان جبل أسو في اليابان، 1965 (من المعرض)
+ الخط -

زيارة معرضٍ فوتوغرافي لا تشبه زيارة معرض فنّي ولا مشاهدة فيلم ولا حضور مسرحية أو حفل موسيقي، ولا حتى قراءة كتاب. ذلك أن كلّاً من هذه الفنون يفترض جمهوراً مؤهَّلاً مسبَقاً يُخاطبه بلغته الخاصة؛ لكنّ الصورة الفوتوغرافية تخاطب الجميع بلا استثناء، ولا تلغي فرصة أحد في اللقاء أو الانتماء إلى الأطلس الكبير، بما أنها لغة عالمية، حيث الأمّية البصرية شبه منعدمة.

لذلك فإن جمهور المعارض الفوتوغرافية مجرّد هواة على الأغلب، ليس لديهم أيّة رغبة في فكّ طلاسمَ مستعصيةٍ أو حلّ ألغاز غير موجودة أصلاً، بل يحضرون فقط للتعرّف في هذه "الأنثروبولوجيا البصرية" على أنفسهم، لإعادة اختبار مشاعرهم، لتصفّح ألبوماتهم من جديد والصوَر المحتملة التي ستسدّ ثغراتها، للاستدلال على أن ما حدث هنالك حدثَ هنا أو سيحدث أو لن، بينما يشاهدون المعرض، وبلا شكّ لا يتوقّفون سوى أمام الصور التي تتصادى مع أشياء من أزمنة معيشة أو متخيّلة.

فهذه المرأة التي تستوقفها صورة حبل غسيل على البلكونة (قد لا تثير اهتمامي) ترى فيها نفسها ولحظتها الأثيرة عندما تتشارك (مثلاً) مع الجارة من بلكونتها ثرثرتهما القصيرة المعتادة، ربما بسبب الروماتيزم المشترك الذي يحول دون تسلّق الدرج إلى السطح. أريد فقط القول إنّ زيارة معرض فوتوغرافي يشبه كثيراً تناول وجبة جماعية في مطعم جامعي أو عمّالي، حيث تنعدم التَراتبية، وتَسود عدوى التعاطف بين الحاضرين، وتَشارُك الروابط الضعيفة، وتجتمع الأهواء حول القصّة الواحدة، وترتفع الأصوات والسُّبّابات معاً بين حين وآخر للإشارة إلى هذا التفصيل أو ذاك عند التعرّف على المعنى الغائب الذي تشرّد قبل عودته، لا سيما إذا كان هذا المعرض للمصوّر الفرنسي هنري كارتييه بريسون.

الحاضر وقد تمّ تعميده في جزء من الثانية قيدَ اندلاعه

هنري كارتييه بريسون (1908 ـ 2004) سُريالي إشكالي، قارئ نهِم، رسّام كلاسيكي شَغوف بالتراكيب الهندسية، مثقّف شيوعي معادٍ للفاشيّة، رحّالة جاب بِقاع المعمور مسلّحاً بكاميرا لايكا يبحث، مثل "يعسوب مسعور"، عن اللقطة الحيّة، من الحرب الأهلية الإسبانية إلى الثورة الصينية، ومن الهند إلى جنوب الولايات المتّحدة، ومن عزرا باوند إلى ماتيس، ومن فوكنر إلى سارتر، "القليل من الأحداث أو عمالقة التاريخ قد أفلت من عدسته".

صاغ منذ البداية مفهوم "اللحظة الحاسمة" بحسب الترجمة الأميركية لمؤلّفه الصادر عام 1952 بعنوان "صوَر على الطائر" في طبعته الفرنسية الأصليّة: اللحظة التي تتضافر فيها كلّ العناصر لإنتاج الصورة، ليس ذروة سيرورةِ الأحداث، إنّما "الذروة الشكليّة والعاطفية".

معرضه الفوتوغرافي الذي يستضيفه "متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر" بالرباط (يستمرّ حتى 30 نيسان/ إبريل القادم) فرصةٌ للتعرّف على أحد أبرز الأمثلة على نجاح المصوّر الفوتوغرافي ــ كمولودٍ شيطانيّ عثرَ على سلاحه وخرج من محترفات الفنون ــ في تحويل العين إلى أداة فعّالة، اضطلعت وحدها بالعمل الفنّي وتفاصيله، وحلّت محلّ اليد العاملة، وصار من الممكن الاستغناء عن التفكير والتخطيط والاشتغال، فقط عبر تفعيل الرؤية والملاحظة ودقّة الالتقاط. العين، "هذا الحيوان الساحر"، كما يصفها جورج شحادة، أصبحت مختبراً للنظر والتفكير والتحليل والانتقاء يعمل بشكل آليّ، ما حدا بالنقّاد إلى إطلاق لقب "عين القرن" على المصوّر الفرنسي.

هنري كارتييه بريسون ـ القسم الثقافي
(من المعرض)

المصوّر الفوتوغرافي هنا ساقان تتحرّكان، تُمارسان رقصاً صوفيّاً وطوافاً بلا نهاية في الخارج، تنصهران في النسيج الحيّ للأزقّة والشوارع لدرجة الذوبان، بحيث يصير خفيّاً، متعقّباً حياةً على وشك افتتاحها أو الإجهاز عليها، ككلبٍ رؤيوي مدرّب على اقتفاء أثر التاريخ وصيرورات الحياة بأعراسها ومآتمها. بؤرة الرؤية ضيّقة للغاية، فقط من خلال ثقب عدسة صغيرة، وبعين واحدة، بينما الثانية عاطلة أو ربّما حالمة، يساعدها الرأس الذي يعمل بنشاط بالتوازي في جرْد هذيان المشاهد المتلاحقة، فرْزها وتصفيفها.

في غضون ذلك لا يستند المصوّر سوى إلى خفقان قلبه الذي يزداد بالتدريج بتسارع وتيرة المرئي، وتتأهّب السّبّابة المستنفرة كعصا مايسترو، مترقّبةً لحظة السفور الأثيرة و"التحالف المتزامن للتلقائية والتشكيل"، للضغط على الزرّ دون تفكير، عندما يحبس أنفاسه ويستنفد النبض ضرباته، وتكون اللقطة الفريدة المصطادة من بين مئات الصور المهملة شبيهة بنوبة قلبية كان المصوّر وحده ضحيّتها ومنقِذَها.

أراد كارتييه بريسون منذ البداية أن تُقرأ صوره الفوتوغرافية كما نقرأ قصص موباسان وتشيخوف (ولعلّها أقرب إلى قصص إرنست همنغواي المنحوتة بالسكّين)، واعتمد مفردات جمالية شبيهة بمعجم القصّة القصيرة: المعمار الصارم الملزِم بحذف كلّ حشو زائد، لصالح التقشّف والشفافية في الأداء؛ الموازنة الدقيقة بين الصرامة والحساسية في ترتيب الفضاءات والأدوار؛ الرغبة في تشكيل صورة وفق خطوط هندسية قوية متناغمة بإيقاعاتها المموسقة ترتقي بالموضوع داخل بيئته إلى ذات؛ إيجاد الإطار المثالي لحصر الواقع المحدّد ذهنياً من خلال استيعاب الهيكل البصري المتماسك للأشكال المعبِّرة والدّالّة عليه؛ "المشاركة في التشريح السريالي الذي تمارسه عدسة الكاميرا"؛ إلزام المتلقّي إزاء إيجاز الصورة وإعجازها "بالقراءة حرفياً وفي كلّ الاتجاهات"؛ الإبقاء على الصمت الذي يسبق ويلي التقاطها بشكل موارب حتى لا يُخدش صفاؤها: كثيراً ما كان كارتييه بريسون يقارن التصوير الفوتوغرافي بالمبارزة؛ أحد المبارزَيْن يلامس الآخر بحدّ سيفه ويتراجع على عجل.

يقارن التصوير بالمبارزة: تلامس الآخر وتتراجع على عجل

تمثّلت عقيدة كارتييه بريسون كمصوّر في أنه لا يؤمن إلّا بالصدفة؛ يلتقط صوره، كما لو ينخرط في لعبة قِمار، يراقب اللعب عن كثب، ويتقبّل الخسارة في البداية عن عمد، فلا حاجة لديه إلى ربح النقاط، بقدر ما يحرص على تتبّع أطوار اللعب وخلط الأوراق، مراهناً على الورقة الوحيدة التي ستُنهي اللعبة بشكل غير متوقع. هذه الورقة الرابحة المنتزعة عنوةً هي اللقطة الاستثنائية التي تجبّ ما قبلها (تستبعد كلّ الزوائد والشوائب في مصفاتها) وما بعدها (تُلامس ما هو قيد الإتيان والانفجار في جنوحها)، عند استنفاد جميع الممكنات والترقّبات، وخروج الواقع عن أطواره من الاحتجاب إلى الظهور، ثم انتهاءً بالتجلّي وخرْق العادة، عند اكتمال عمارة الحاضر البصريّة والتشكيلية بهذه الومضة التي يُجيب كارتييه بريسون على الفور نداءها العاجل: "نعم! نعم! نعم! نعم! كما في ختام 'عوليس' جويس".

نحن في عام 1932. المكان "قُرب محطّة سان لازار بباريس". مشهدٌ حضريّ قاتم إلى حدٍّ ما. السماء فوق البنايات رمادية. الأرض مغمورة بالمياه، بسبب هطول أمطار غزيرة. رصيف مليء بالركام والقمامة: أكوام من الحجارة، ركام من الطين، أنابيب، عوارض، سلّم خشبي ملقى على الأرض، منقلة يدوية... المكان قيد البناء بلا شكّ. ثمة سياج حديدي ينعكس بوضوح على المياه المتجمّعة، يفصل بين الرصيف والمحطّة ويحجب الرؤية قليلاً، ما يزيد من إغلاق المشهد وكآبته والشعور بالحصار، لا سيما بوجود هذا الشبَح الرقيب الماثل خلف القضبان في الزاوية.

في فضاء البركة الصغيرة حيث يدور مشهدٌ مسرحيّ مقلوب، تتضاعف فيه تناظرات الظلال المنعكسة والمتصادية على الصفحة، موجِّهة خطوط الانفلات إلى نقطة توتّر هائلة ترتجّ على سطحها الراكد: شبَحٌ هارب يقفز في المقدّمة فوق ظلّه المتدحرج على المياه، منخرطاً في سباق محموم، ومفجّراً سكونيةَ المشهد ككلٍّ بحركته اللافتة للانتباه. مَن يكون هذا الشبح المارق كما لو خرج للتوّ من قُمقم الحكايات العجائبية؟ إلى أين يُسرع الفرار كعجلة كبيرة مُهرولة؟

هنري كارتييه بريسون ـ القسم الثقافي
(من المعرض)

إنه مجرّد عابر سبيل بالتأكيد، يرتدي بذلة غامقة ويعتمر قبّعة أنيقة، يبدو في سباق مع عقارب ساعة البرج الشامخة أعلى بناية المحطة، في سباق مع ظلّه، للّحاق بقطار الصباح ربما. وضعت الصدفة في متناوله سلّماً خشبياً كنقطة انطلاق إلى الضفّة الأخرى، وتوحي قفزة خطوته الواسعة بساقيها المفتوحتين أن جسده المحاصَر في ما يشبه زنزانة مسيّجة يتحرّر أخيراً من عبء المادة، من أسْر الطبيعة، من كلّ تَبَعيّة، ومن كلّ محدودية تشلّ حركته، وينخرط في لحظته الخاصة المليئة بالرهبة والأمل والجمال، بينما يركض بأعجوبة فوق الماء، رفقةَ ظلّه الموازي، من مفاجأة إلى مفاجأة، مستخدماً بكلّ تأكيد درجات السلّم الخشبيّ الملقى على الأرض، تاركاً وراءه دوائر مائية صغيرة.

كيف تحوّل هذا السلّم المسجّى إلى معراج يصل بين الأرض والسماء؟ كيف لا تُخطئ العين أنّ الدرجات السبع هي عدد الخطوات المسروقة قبل تحليق الجسد في الفضاء؟ يكفي تحريف زاوية الرؤية قليلاً إلى يمين الصورة والنظر من أسفل السلّم لنرى أن هذا العابر تسلّق الدرجات الخشبية بسرعة متناهية، ارتقى إلى السماء طائراً بلا أجنحة، وخرج من انغلاق الإطار لمعانقة فضاء الحرّية، موقِّعاً الرقصة ذاتها لراقص الباليه على الملصَق، بمجرّد تسلّق الدرجة الأخيرة، وستتحوّل البركة الصغيرة إلى صفحة سماوية فسيحة، وسنرى بوضوح أن الشبح الواقف خلف السياج الحديدي ليس متلصّصاً عاديّاً، بل شبيهٌ ومكافِئٌ للمصوّر الفوتوغرافي في وقفته ويقظته إزاء هذا المشهد الاعتيادي من الحياة اليومية الذي ينقلب على عقبه في "اللحظة الحاسمة"، ويقلب قواعد المنظور، ملامساً أبعاداً شِعريّة صرفة. إنها رؤيا اختراقية وانشقاقية للحاضر الذي تمّ تثبيته وتنضيده وتعميده في جزء من الثانية قيدَ اندلاعه؛ أي لحظةُ تحوُّلِ زمنيةٍ إنسانية مشروطة عبر خطوط انفلاتها إلى فضاءٍ بديلٍ وجوازِ العابر إلى الأبديّ.

الصورة لدى هنري كارتييه بريسون تولّد دائماً جسراً سحريّاً للعبور من وإلى، تولّد ممرّاً مراوغاً للانفلات من سجن العناصر، تولّد وثبةً هائلة في الفراغ، حيث يمتلئ الجسد بحضوره الطاغي على الفور، مستجيباً لجرَس إنذاره الداخليّ، وتنهار كلّ الدفاعات والمقاومات، ويمتلك ــ ولو مؤقّتاً ــ حرّيته، منتشياً كشرارة كبيرة بأبّهته وهشاشته في نفس الوقت.

هنري كارتييه بريسون ـ القسم الثقافي
(هنري كارتييه بريسون)

في سنوات تقاعده، كثيراً ما شوهد هنري كارتييه بريسون في المتاحف، يحمل كرسيّاً مطويّاً ودفتر رسم، ويجلس لساعات قبالة لوحات باولو أوشيلو وفان إيك وبييرو ديلا فراتشيسكا وغيرهم، موبّخاً السيّاح الذين لا يتوقّفون أمام هذه التحف الفنية سوى لالتقاط الصور. وكان يُمضي أيضاً وقتا أطول في "متحف التاريخ الطبيعي" بباريس، في رسم الهياكل العظمية كما لو كان لا يزال متعلّماً تحت التدريب في محترف أندريه لوت، وعندما كان يُسأل عن سبب هذا الهوس بالعظام، كان يجيب دائماً الجواب ذاته: "لأنها لا تتحرّك!"، ويشتكي من صعوبة رسم اليد والقدم (أكثر الأعضاء حركيّة في الجسد)، الشيء الذي يبدو غريباً بالنسبة إلى مصوّر قنّاص للحركة طوال حياته.

لكن، أليسَ التصوير الفوتوغرافي، في الأساس، فنُّ الثبات والسكون؟ أليست الصور الرائعة التي تستوقفنا دائماً، تحبس أنفاسنا، تُسمّرنا في مكاننا، تُمارس علينا السكون ذاته لحظة التقاطها، مهما بدت لنا مليئة بالحركة، فهي لا تتحرّك سوى في ذهننا الذي يستحضر أطيافاً مُماثِلة تتداعى شيئاً فشيئاً بينما نواصل المشاهدة؟ مع أنّني أعرف أنّ الصورة التي تعرض منظراً طبيعيا مترامياً لا يوجد خلفها غير الحائط، إلّا أنّني أتصوّر على الفور، بفرحٍ طفوليّ، أنّ البحر يوجد مباشرةً خلْفَ التلّة الكبيرة!

المساهمون