"هكذا يولد الحبّ" لأدونيس.. رقائم تتمرّد على اللوحة

28 سبتمبر 2023
أدونيس في افتتاح المعرض (العربي الجديد)
+ الخط -

افتُتح في التاسع من أيلول/ سبتمبر 2023 في صالة "هيلتون للفنون" في مدينة شيكاغو المعرض الفردي الفنّي الأول، للشاعر أدونيس، في الولايات المتحدة الأميركية، الذي أشرفت عليه ونظّمته صاحبة الصالة الفنانة والشاعرة الأميركية أريكا هيلتون. 

جاء المعرض، والذي يستمر لمدة عام كامل، تحت عنوان "هكذا يولد الحب"، واشتمل على أكثر من خمسين رقيمة فنيّة من أعمال أدونيس الجديدة. وحضرت حفل الافتتاح شخصياتٌ فنيّة وأدبية وسياسية، ضمّت المخرج السينمائي الأميركي جاك بيندر، وابنته مصمّمة الأزياء حنا بيندر، والشاعرة والناشرة المكسيكية جانيت لوزانو كاروند، والشاعرة الأميركية آنا كاستيو، والشاعرة الأميركية من أصل هندي أحمر إيليز باشين والشاعر الجزائري الخضر شودار والشاعر الأميركي من أصل باكستاني فيصل محيي الدين والممثل جون كلارك بالإضافة إلى فنانين وشعراء وكتاب أميركيين آخرين. وشملت أنشطة المعرض توقيع الشاعر لكتالوج فني أنيق من القياس الكبير، ضم صور رقائمه المعروضة.

تُجسّد رقائم أدونيس قطيعة فنيّةً مع لوحة عصر النهضة وقيمها الجمالية، وتستلهم التجربة الفنية التي سبقت الديانات التوحيدية في منطقتنا وتنطلق في أفق الحريّة الفنية، ذلك أنَّ الأعمال المعروضة نتاج روح فنيّة متمرّدة سعت إلى تصحيح المسار الفني وتحرير اللوحة من تبعيتها لإملاءات التعاليم والقيود الجمالية الغربية التي استرقّت التجربة الفنية العربية لعقود. إن ما يميّز الأعمال الفنية في هذا المعرض هو فرادتها وشدّة اختلافها داخل سياق الإنتاج الفني العربي والغربي. فهي تُعرض تحت تسمية جديدة هي الرقيمة لا اللوحة.

تأتي الرقيمة من الجذر اللغوي "رَقَم"، ويعني كتب وخطّ
 

والرقيمة تأتي من الجذر اللغوي "رَقَم"، والذي يعني كتب وخطّ ووشّى ونقّط ونقش وختم. غير أنَّ الرقيمة صارت في التجربة الأدونيسية أفقاً كولّاجياً يحتوي على عناصر عديدة، كقطع الأقمشة الرثّة والبالية والأسلاك المعدنية، وقِطع الحديد الصدئ والخشب، محاطةً برحم من الكلمات، هي في الأساس مقاطع من قصائد الشاعر نفسه، أو أبياتٌ لشعراء عرب قُدامى من الكبار الذين يحبّهم أدونيس. بالتالي تكتسب الرقيمة في سياق الاستخدام الأدونيسي للتسمية معنىً جديداً، وتنطوي على تمرّد على اللوحة كما هي معروفة، وعلى افتراق عنها نحو آفاقٍ جماليّة غير مطروقة. 

اكتشف أدونيس ميوله الفنيّة في جوٍّ من العُزلة في أوائل التسعينيات، حين كان شاعراً مُقيماً في "معهد برلين للدراسات المتقدّمة". هناك بدأ يخطّط ويلوّن ويُلصق مُستقصياً تقنية الكولّاج. هكذا خرج من هذه التجربة بمعرضٍ لأعماله في المعهد لفت النظر آنذاك، وفتحَ له أفقاً جديداً حتّى جابت رقائمه الشرق والغرب، عبرَ سلسلةِ معارض في أوروبا والصين لاقت إقبالاً كبيراً. كما نُشرت كتالوجات كثيرة له، معظمها من القطع الكبير ضمت رقائم الشاعر. ولا يزال "معهد برلين للدراسات المتقدّمة" يحتفظ بثلاث رقائم أهداه إياها آنذاك. 

أدونيس مع صاحبة الصالة الشاعرة والفنانة أريكا هيلتون (العربي الجديد)
أدونيس مع صاحبة الصالة الشاعرة والفنانة أريكا هيلتون (العربي الجديد)

تلفت الرقائم المُعلّقة في "صالة هيلتون" في شيكاغو النظرَ بجمالها وتسلّم نفسها لقراءات متعدّدة. هذا إذا سلّمنا أنَّ العمل الفني هو "حمّال أوجه"، أو ينفتح على قراءات بصرية لا تستنفده، ولا يمكن أن تنفصل في النهاية عنه. غير أنَّ لكل عينٍ قراءتها. وللعيون مستويات ودرجات وطبقات. 

تجسّد قطيعة فنيّة مع لوحة عصر النهضة وقيمها الجمالية 
 

يعتقد أدونيس أنَّ الشاعر يغيّر العلاقة بين الكلمة والشيء، وبين الكلمة والكلمة، ولذلك ينبغي على الفنان أن يغيّر العلاقة بين اللون والأشياء أو الأجسام الملوّنة. إنَّ تغييراً إبداعياً لهذه العلاقة يُربك اللون بالمعنى التقليدي ويخرجه من المألوف ويقذفه في مساحة لونية جديدة غير مكتشفة. كما لو أنَّ يد الفنان لا تلوّن الورق الذي أمامه، أو القماش، بل تلوّن المجهول. فيتجسد عبْر علاقات موسيقية بين الكلمة والشيء واللون وعناصر الكولّاج الملصقة. كما لو أنّ ملحمة أو سيفمونية موسيقية تصدح حين ترتطم العين بالفضاء التشكيلي الرقيميّ، ما يحرّرنا من الذاكرة البصرية المألوفة ويأخذنا إلى أفق فنّيّ جديد.

غير أنَّ الرقيمة، بسبب جدتها، لا تزال في إطار التجريب، كما يقول أدونيس، الذي أشار إلى أن مجيئه إلى الفن من خلفية شعرية منحه حريّة أكبر وساعده على إحداث قطيعة مع تبعيّة الجماليات المستوردة، مسافراً في عوالم الحضارات القديمة في المنطقة، كي يعاود إيقاظ شعلة روح مُنطفئة فنياً. 

يمكن النظر إلى المعرض على أنّه قطيعة ودعوة. قطيعةٌ مع ثقافة الاستعادة والاستعارة كما يسميها أدونيس، ودعوة إلى فتح أفق جديد للحساسية والذوق الفني. وهنا يتوضّح المصطلح الأدونيسي "تلوين اللون"؛ ذلك أنَّ اللون يخرجُ من نفسه كي يتوحّد كيانه بآخر في سياق جديد يتحرّك كالموسيقى حين تُلامس النفس البشرية. فهذا التناغم بين خط اليد -النصوص الشعرية- والأشياء المادية المؤلّفة من قطع قماش وخشب وحديد وغيرها من مواد مُهملة أو بالية أخُرجت من سياقها؛ كما هو حال البيت الشعري المكتوب على الرقيمة الذي أخُرج من سياق القصيدة، والأشياء المهملة التي ألصقت عليها وأُخرجت من وجودها الغُفْل، والألوان المستخدمة التي أُخرجت من لونيتها ودُفعت نحو تلوين آخر يتشكل موسيقياً، كلّها عناصر تسبح أو تتدفّق مفردةً أو مع بعضها بعذوبةٍ في فلك فضاء الرقيمة. كما لو أننا نُصغي للموسيقى فيما نشاهد بأعيننا الأشكال كإيقاعات موسيقية ولونية، والألحان كأشكالٍ سابحةٍ في سياق فضاءٍ مشترك يتحقّق فيه تناغم تنضح منه الشعرية.

لا تتشابه الرقائم، فلكلٍّ منها هويّتها البصرية المختلفة والقابلة لإعادة الخلق بحسب العين المُتأمّلة، والتي لا يمكن أن تُستنفد بمشاهدة واحدة كما لا يمكن أن تُستنفد القصيدة العظيمة في قراءة واحدة. ويعتمد أدونيس الكولّاج كوسيلة لتحرير الرقيمة من إكراهات وقيود اللوحة وجماليّة الاستعادة التي تنطوي عليها ضمن تقاليد فنية أسبق. ولقد استُخدم الكولّاج الذي يعتمده الشاعر في رقائمه لآلاف السنين؛ لكنّه لم يتجسّد في أسلوب إلّا على يد الفنان الفرنسي جاك براك، والفنان الإسباني بابلو بيكاسو في أوائل التسعينيات.

الكولّاج في الرقيمة أشبه بتعدّد الأصوات في الرواية
 

وليست هناك تقنيّة محدّدة في الكولّاج، لكنّه يُتيح تحوّلاً حقيقياً، فحين تلتقطُ شيئاً مرميّاً أو مُهْملاً وتُلْصقه على اللّوحة، فإنّك تمنحه حياةً جديدة في سياق مُبتكَر. ويقدّم الكولّاج مفاتيح بصريّة تعكس الواقع في تجاور عناصره وتناغمها، ما يعبّر عن طبقاتٍ ومراحل زمنيّة. لهذا يُعدّ الكولّاج تقنية تحويلية. فحين يأخذ الفنان مادة لم تعد ذات قيمة ولا حاجة إليها ويُدخلها في عمله، فإنّه بذلك يحوّلها ويُحييها ويشحنها بحياةٍ جديدة. ولا يحصر الكولّاج نفسه في حدود سردية فحسب، بل يُحدث تطوّراً داخل العمل الفني. ذلك أنَّ الطبقات المتجاورة تعكس بعداً زمنياً وتطوّراً وحركية نحو الأمام.

وفي رقيمة أدونيس يتحرّك الكولّاج داخل فضاء تبدو فيه الكلمة المكتوبة كأنّها نسائم موسيقية. ما يمنح عناصر الكولّاج مسحة حُلمية ورؤيوية، وتشعر أحياناً وأنت تنظر إلى الرقيمة كما لو أنّ الموسيقى تجسّدت بصرياً. إنَّ الكولّاج في الرقيمة أشبه بتعدّد الأصوات في الرواية- إذا صحّت المقارنة. فإذا كانت القصّة مَرويّة من وجهات نظر مختلفة وعلى ألسنة شخصيّات متعدّدة تتوضّع في سياقات مختلفة وعلى مستويات متفاوتة، فإنّ حركية السرد في الرواية تكتسب غنىً يتجاوز ما يمكن أن يقدّمه السرد الخطي الأفقي المنطلق من منظار واحد.

ويهدف تعدّد المواد المستخدمة في الكولّاج، وتعدّد عناصر اللوحة؛ أيّ الجمع بين الكتابة واللون ومواد الكولّاج، إلى إخراج اللّوحة من قيودها الجمالية والتقنية نحو آفاق أرحب. لهذا يقول أدونيس: "إنَّ اللّون بحاجة إلى تلوين"، كما المادة بحاجة لإنقاذ حين تكون مرمية على الطرقات. وهذا يعيدنا أيضاً إلى ما قاله الجاحظ: "الأفكار مُلقاة على قارعة الطريق" لكنّها بحاجةٍ لمن يلتقطها. الأفكار بحاجة إلى من يستخدمها في سياق مختلف تكتسب فيه معنى جديداً، وإلى من يعبّر عنها في شكل فني مُبتكر.

وفي سؤال لأدونيس عمّا يقصده بـ"تلوين اللون"، يقول لنا: "إنَّ اللون الأزرق عند بيكاسو يختلف عن اللون الأزرق عند الرسام الفرنسي جورج براك أو هنري ماتيس، كما تختلف الكلمة بين شاعر وآخر عبر علاقاتها داخل النص. إنَّ تلوين اللّون يعادله في الشعر إعطاء الكلمة نَفَساً شعرياً وحساسية. فالشاعر ينفخ في الكلمة التي يستخدمها روحَه. لذلك لا توجد كلمةٌ في جملة شاعر كبير تُشبه الكلمة لدى شاعر آخر. إنَّ ما يدل على شاعريّة الشَّاعر هو كيفيّة تغييره لدلالة الكلمة التي استخدمها القدامى، فيخلق لها علاقات جديدة ويلبسها هيئة جديدة". وهذا يشبه ما يحدث للون حين يتلون في سياق جديد.

وعلى سؤال ما الذي يجعل من رقيمتك عملاً فنيّاً إبداعيّاً؟ يرى أدونيس أنه لا توجد رقيمة سابقة على رقيمته كي يقيس عليها بخلاف القصيدة. فأنتَ تستطيع أن تتحدّث عن قصيدة وتُقارنها بما سبقها أو بما يعاصرها، كي تشير إلى اختلافها أو إلى هويّتها الإبداعية. إلّا أن الرقيمة هي شكلٌ وُلد من عدمٍ. إذ لا سابق لها وبالتالي من الصعب مقاربتها أو مقارنتها بغيرها. فهي قفزةٌ فنيّة عمودية في العالم التشكيلي الأفقي، مشحونة بروحٍ شعريّة تتجلّى في ألوانها المُطبقة وأشيائها المُلصقة والكلمات المكتوبة فيها. وهي تخرج من البعد الزخرفي لتندرج في بعدٍ تشكيلي. وإذا كانت هناك رسوم عربية أو فارسية استخدمت الكلام، فقد أدخلته بطريقة مختلفة عن طريقته، كما يؤكّد صاحب "مفرد بصيغة الجمع"، والذي يرى أنه لا يوجد نموذج كي نقيس عليه الرقيمة اليوم، كما يقيس المرء لوحة لفاتح المدرس على لوحة لفنان أوروبي من العصر الحاضر أو من عصر النهضة.

وهنا يتساءل أدونيس أيضاً: لماذا النموذج؟ داعياً إلى حذفه من تاريخ الفن، حيث يقول: "على الصعيد الشعري الشاعر هو نموذج نفسه. ويجب على الشاعر أن يقرأ كلّ شيء، كلّ ما تطاله يده من علمٍ وفلسفةٍ وشعرٍ. وبعد ذلك عليه أن ينسى ما قرأه ويكتب ذاته. وإلّا سيكتب ذات غيره ويكون خاضعاً لإملاءات وطغيان ثقافة ارتبطت بالسلطة وصارت وظيفية. الفنان بهذا المعنى، لا يحتاج إلى محاكاة النموذج.

وفي سؤال آخر عن إدخال أبيات شعرية كلاسيكية أو مقاطع وقصائد قصيرة من شعره والهدف من وجودها في الرقيمة، يوضّح أدونيس: "إن الكلمة مجرد لطشة، لمسة لونية ويجب ألا يُنظر إليها بخلاف ذلك أبداً، ولهذا يكتب بيت الشعر في الرقيمة بشكل مختلف بحيث لا تمكن قراءته. إن الكلام غير موجود في اللوحة كي يُقرأ ولا يرتبط بالمعنى. إنه مجرد تكوين بصري. لكن بما أننا نحبّ الكلام نخرج من اللوحة إلى الذاكرة وهذا خطأ. إنَّ العمل الفني في قراءته مفتوح، إذ لا يمكن أن يقرأ اثنان العمل الفني ذاته بالطريقة ذاتها، إن العمل الفني نفسه الذي يقرأه هيدغر على سبيل المثال هو غير الذي يقرأه توما الأكويني". 

في اليوم الذي تلا افتتاح المعرض الفني في "صالة هيلتون"، دُعي أدونيس إلى حوار مفتوحٍ مع الجمهور في المهرجان الأدبي "بيرنترز رو" للكتاب؛ وهو أضخم مهرجان ومعرض كتب في الغرب الأوسط الأميركي. تشير كلمتا "برينترز رو" إلى حيٍّ في وسط شيكاغو كانت تُطبع فيه الكتب. ولقد أُطلق عليه اسم ”مكة طباعة الكتب وتجليدها".

من المعرض
من المعرض/ العربي الجديد

تميّزت ندوة الشاعر بحضور لافت لجمهور أميركي وسوري وعربي. وتمحور الحديث حول تجربة أدونيس الفنية، حيث استهل كلامه لجمهور الحضور قائلاً: "إنّ أوّل قصيدة حبٍّ في التاريخ كُتبت في بغداد، وأوّل تمثال لعاشقين نُحت في بغداد. أمّا ما فعله الفراعنة على الصعيد الفني فلم تفعله أيّة أمة في العالم، لكننا ننسى". وأضاف أدونيس أنَّ "الأبجدية اختُرعت في منطقتنا ونقلناها بواسطة يوروب، التي أخذت أوروبا اسمها منها، والذي هو اسم فتاة وُلدت في لبنان". ونبّه إلى أنه: "لو دخلنا متحفاً واحداً كالمتحف المصري أو متحفاً في بغداد أو في سورية، لرأينا أن أيّ متحف من هذه المتاحف أعظم وأكثر أهمية من جميع ما أنتجته الديانات الوحدانية الثلاث. مع ذلك، ندير ظهورنا لهذا كله ونأخذ الفن الغربي. ولهذا أنا مليء بالغضب".

كما أوضح أنّه في هذا الأفق قرّر أن يكمل مشروعه في الفن ويتمرّد على اللوحة كما عرّفها وحدّدها عصر النهضة، داعياً الفنانين للعودة إلى التراث السابق على الديانات التوحيدية في المنطقة العربية؛ لأنّه شكّل أساس الحضارة الكونية وطرح الأسئلة الأولى حول الوجود والمصير والموت والعلاقة بين الطبيعة والصناعة والمدينة والريف وجميع المشكلات. وكان هذا واضحاً في ملحمة جلجامش. وأكَّدَ أنّه آن الأوان للخروج من هذا المأزق الذي نعيشه اليوم. فنحن نعيش ضمن معادلة ضيقة هي معادلة الاستعارة من الغرب، أو استعادة القديم وتكراره. وواجبنا هو هدم هذه الثنائية التي نعيش داخل زنزانتها وشق طريق جديد لحرية الإبداع. وأضاف أدونيس أنه لا بدّ من العودة إبداعياً إلى الأصول الثقافية والتاريخية للشرق الأوسط التي حضنت جميع الحضارات. والحضارة الغربية جزء منها.

وحول تجربته في إبداع الرقيمة بَيَّنَ أدونيس أنّه خطر له أن يقوم بتجربة جديدة، وحاول أن يبدع نموذجاً جديداً للعلاقة بين الشاعر والفنان والعالَم. لذلك ابتكر عملاً فنيّاً مفتوحاً لجميع العناصر والأشياء، حيث الكلمة العربية في ذاتها لها بعد تشكيلي. ولهذا قرّر إدخالها لا كزخرفة في بنية اللوحة، بل كبعدٍ تشكيلي. وكما جرّب في القصيدة ونقلها من شكلها التقليدي إلى تشكيل أكثر فنية يتوضح حتى بصرياً على البياض، قام أدونيس، لابساً خفّي الشعر، بتطوير اللوحة. 

وأشارَ أدونيس إلى أنّه أينما سافر يجد أسباباً كثيرة تفرّق بين البشر، باستثناء الشعر والحب. فهما يجمعان بيننا مهما كانت البلدان متباعدة، ومهما كانت متناحرة. فالشعر والحب ينتصران في النهاية. وأضاف أن كل واحد منا عنده أحلامه الخاصة ومخيلته الخاصة وله شعوره الخاص وجسده الخاص، ولأن الحرية لن تأتي إلا من خلال المرأة، فإنني سأسأل امرأةً: هل تحلمين الحلم نفسه كأختك؟ إنَّ كل واحد منّا يحلم وفق فرادته. وموطن الفرادة هو الجسد، وليس الرأس. فالرأس أو العقل مشترك. كلنا نقول 2+ 2 يساوي أربعة. ولكن ليس هناك أي شيء مشترك على مستوى المخيلة والحلم والجسد.

نعيش ضمن معادلة ضيقة هي معادلة الاستعارة من الغرب
 

إذن الفرادة والفن يأتيان من الجسد، لا من الرأس. ولن تأتي الحرية إلا حين نحرّر أجسادنا. والفن يأتي من الفرادة، لا من المشترك. وهذا ما ننقله إلى الآخر. وهكذا يتغيّر الذوق والفن والعلاقات الاجتماعية. واستطرد أدونيس قائلاً: "إنه حين يقرأ قصيدة عن الحب كتبتها امرأة، فإنّه يقرأ حبّها هي، وليس الحب في الكتب والروايات. حتى الآن لا نقرأ حبّ الشخص الذي يكتب، بل ما طُرح في الكتب. نحن بحاجة إلى أن نقرأ الحب عند كل امرأة ورجل على حدة. وعندما نقوم بهذا يتغيّر كل شيء: علاقة الكلمة بالكلمة تتغيّر، وعلاقة الكلمة بالشيء تتغيّر وعلاقة القارئ بالكلمة تتغيّر. وهكذا يظل الفنّ جديداً ومتفتحاً ومفتوحاً على أفق بلا نهاية". 

واختتم أدونيس كلامه قائلاً: "إن محاكاة الغرب تُعرقل الإبداع في عالمنا العربي كما لو أنها استعمار للمخيلة. ولهذا يجب أن نتوقف عن الاستعارة من الغرب وعن نسيان أنفسنا، وعن إدارة ظهورنا لتراثنا العظيم".

* شاعر ومترجم سوري مقيم في شيكاغو

كتب
التحديثات الحية
المساهمون