تغلب على الرأي السياسي السائد، اليوم، الرغبة في تقسيم العالَم، والناس، والجغرافيا إلى قِسمة ثنائية بلا ثالث، والثالث مرفوض أو مُدان غالباً. وأكثر مَن يرغبون أو يُعلنون هذه القِسمة هم الحكّام عموماً، إذ يعتبرون أنّ على المحكومين أن يكونوا من أنصار الحاكم بالضرورة، وبالولاء، وبالحاجة، وبأدوات القمع المُعلنة أو الخفيّة.
غير أنّ هذه القِسمة تطال الثوّار، أو أدعياء الثورات، في كثير من الأحيان، إذ يُعيدون تقسيم العالَم بالقِسمة الثنائية إيّاها؛ أبيض وأسود، ويهاجمون الصامتين الذين يصفونهم بالرماديّين، بلا رحمة. والرحمة وصفة إنسانية شديدة الأهمية في تفهُّم الشخصية البشرية، ولكنّها تغيب في كثير من الأحيان في الأزمان الشديدة المتّسمة بالصراعات والتناقض.
والرمادي شخصية إشكالية، واللّافت أنّ الرماديّين أكثرية، وأبرز صفات تلك الأكثرية هي الباطنية التي يُخفون فيها موقفهم الحقيقي، ولكنّهم يُسرعون لتبديل ذلك في الأوقات المناسبة لهم، وقد يكون لانحيازهم إلى هذا الطرف أو ذاك دور حاسم في تقرير المنتصر، بينما لا يُشكّل الثوّار في أي ثورة نسبة عالية عددياً من الشعب، ولكنهم يتميّزون بالشجاعة والجرأة والوعي السياسي عن غيرهم.
ليست الكثرة ما يُميّز الثوّار بل رأيهم الجريء وشجاعتهم
والمشكلة هي في الوصاية، أو في ادّعاء أي طرف من الأطراف، أشخاصاً وتيّارات وأحزاباً، الحقّ في التصنيف، وفي منح شهادات المواقف الصحيحة. هذه مشكلة تجتاح سورية من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.
سبق لعبد الرحمن الكواكبي أن كتب في الصفحة قبل الأخيرة من كتابه الشهير "طبائع الاستبداد"، يقول: "ولا بُدّ من تعيين المطلب والخطّة تعييناً واضحاً موافقاً لرأي الكلّ"، ثم صحّح عبارته، قائلاً: "أو الأكثرية التي هي فوق ثلاثة الأرباع عدداً أو قوة بأس"، ثم أضاف في الفقرة التالية: "ولذلك يجب تعيين الغاية بصراحة وإخلاص وإشهارها بين الكافة، والسعي في إقناعهم واستحصال رضائهم بها ما أمكن ذلك، بل الأَولى حَمْلُ العوام على النداء بها وطلبها من عند أنفسهم".
والحقيقة التي ينساها كثيرون، هي أنّ الزمن القصير الذي يمتدُّ من عام 2011 إلى عام 2023 أثبت أكثر من مرّة أنّ المواقف لا تثبت على حال، وأنّ الأشخاص أنفسهم يتغيّرون ويبدّلون آراءهم وانتماءاتهم. وأنّ كثيرين من بينهم يحتاجون للمساعدة والتفهّم، لا للإدانة والشجب، وخاصة من بين الثائرين الصادقين الذين يحتاجون إلى دعمهم ومساندتهم في المقابل.
هذا في الحياة اليومية التي يراها، ويجرّبها، ويعيشها معظمُ البشر، وخاصة في الزمن الثوري، أو في أزمان الأزمات، ويُقدّم لنا الأدب أمثلةً على حركة الحياة النابضة، ففي رواية "المرايا" لنجيب محفوظ شخصية هجار المنياوي الشيخ الثائر الذي ينتمي إلى حزب الوفد، ويُخلِص له، ولسياساته، ولكنه يُنجِب ابناً يُصبح ضابطاً في البوليس، ليقبض في بدايات ثورة 23 يوليو المصرية على أعضاء في حزب الوفد، الحزب الذي دافع والدُه طوال عمره عن مبادئه. ويُعلّق الراوي الذي كان يُشاهد ما يحدث قائلاً: "تأمّلت الموقف، نظرت طويلاً إلى الابن، تذكّرت الأب، ثم خُيّل إليّ أنّي أسمعُ هدير الزمن وهو يتدفّق حاملاً متناقضاته المُتلاطمة".
* روائي من سورية