الزمن الموحش، والزمن الحرّاشي. أمّا الزمن الموحش فهو الوصفة التي صاغها روائياً السوري حيدر حيدر، كان يصف زمن أحداث الرواية، ويتنبّأ بالزمن القادم الذي بات فيه الزمن الموحش وحشاً يلتهم حيوات البشر الذين يعيشون في ظلّه. وأمّا الجزائري الطاهر وطّار، فقد اختار وصفة أُخرى للزمن العربي سمّاها الزمن الحرّاشي. وقد جعل من روايته "العشق والموت في الزمن الحرّاشي" جزءاً ثانياً لروايته الشهيرة "اللاز".
هذا هو موقف الروائي من زمنه، أي من الحاضر الذي يعيش فيه. ويمكن للرواية أن تذمّ الزمن الماضي أو تمدحه أو تتنبّأ بزمن المستقبل الخراب. والزمن هنا هو الزمن السياسي أو الاجتماعي عامّةً، ومن النادر أن يكون زمناً فكرياً ناجماً عن النظرية، ولدى الروائيّ العربي كلُّ المعطيات اللازمة لتقديم الوصف الدقيق للزمن الذي يهجوه. وإذا كانت الموحِش أو الحرّاشي مجازاً، أو نبوءة في زمن الروائي، فقد قدّمت السنوات اللاحقة ما يثبت أن المجاز يتحقّق في عالمنا المعاصر بأكثر صوره قبحاً: انقطاع الأمل، الهزائم العسكرية، التهام الثورات وتبديد إرث التضحيات التي قدّمها آلاف من المقاتلين من أجل تحرير البلاد من الاستعمار، كما في روايتَي الطاهر وطّار.
كان هذا حال الرواية العربية منذ البداية. فقد بدأ المويلحي منذ "حديث عيسى بن هشام " في الكلام عن الزمن، حيث الفساد والاستغلال، وإذا كان يوسف السباعي قد كتب عن "أرض النفاق"، ففقد كان في الحقيقة يشير مجازاً إلى زمن النفاق، وهكذا كانت ثلاثية نجيب محفوظ، ورواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي، و"الشراع والعاصفة" لحنا مينة، و"الوباء" لهاني الراهب. وفي كل رواية من هذه الروايات تحاكِم الروايةُ الزمن الواقعي، وفي كلّ محاكمة تقدّم الرواية كلَّ الأدلّة التي تثبت فساد الزمن، أي زمنها.
تحاكِم الروايةُ الزمن الواقعي وتقدّم كل الأدلّة التي تثبت فساده
هل يكون موقف الرواية من الواقع، هو السبب، أو هو أحد الأسباب التي وضعت حاجزاً من انعدام الثقة بينها وبين المجتمع العربي؟ فقد اتّسمَت العلاقة حتى اليوم بالريبة عموماً مِن الرواية بين الأوساط، أو من المجتمع الراكد الذي لم يعتد النقد العلني، أو كشف عيوب الشخصيات. وقد رافق هذا الأمر نشأة الرواية عامّةً في معظم المجتمعات، فمحاكاة الواقع كانت تعني لدى السواد الأعظم من القرّاء استعادة تفاصيله. والظاهر أن الجميع يعلمون أنَّ ما يهيمن على التفاصيل الحياتية هي الشرور والنقائص لا أفعال الخير، وأنَّ العنف والقتل والفساد هي التي تسود في الغالب، على الرغم من دفاع البشر عن الخير والحق.
ولكن الرواية نشأت متمرّدة وناقدة، لا ذليلة وخانعة، تلك هي البداية التي وضعت النص الروائي في تضاد مع الزمن الواقعي، ومن الصعب أن تكون الروايات الجيّدة روايات الموافقة والتصفيق، فعالم الرواية الحقيقي يقتضي البحث عن العيوب والنقائص التي تشوّه إنسانية الإنسان، أو المشاكل التي تعيق حريته، وحياته السعيدة، عالم الرواية يقتضي مواجهة العالم الواقعي بالحقيقة عن نفسه وعن أحواله، ولا أظنّ أنَّ بوسع أيّ نوع كتابي آخر غير هذا النوع - باستثناء المسرح - تنفيذ مثل هذه المهمّة العظيمة.
* روائي من سورية