هؤلاء مرايانا.. شعراء فلسطين الشهداء

27 ديسمبر 2023
رفعت العرعير
+ الخط -

أحسُّ باللغة وهي تقترب من الروح، وتُودِع وديعتها الشعرية على شكل كلامٍ للذكرى والتذكار والوجود، الوجودُ شعراً بعد مفارقة الروح الجسد. كم رأينا من أهل غزّة وفلسطين وهُم يودّعوننا بالشِّعر وباللغة حين أدركوا أنّ الموت يحيطُ بهم من كلّ جانب، ولم يعُد هناك من مفرّ.

يا لوحشة الروح ورهبة الجسد أمام النهاية وهي تقترب بكامل بشاعتها وثقلها، والتي لم تكن في الحسبان. كثيرٌ من هؤلاء الشعراء والشاعرات، وكلّ من استشرفَ موته بغزّة في المقتلة الإسرائيلية الجارية على الشعب الفلسطيني، أرادوا لنا نحنُ الأحياء أن نعرفَ أنّهم كانوا هنا، وكانت لهم أحلام وطموحات، وكانوا مليئين بالحياة قبل أن يُفرض عليهم الحرمان والرعب والموت، وكانوا بشراً أفاضل يضحكون ويحزنون ويحتفلون بالولد والبنت والأعياد والأصدقاء، وتخيّم على حياتهم رتابة الوجود.

لا بدَّ من ذاكرة أعلى وأمتنُ من جبال الألب والهمالايا

أودّ أحياناً لو ألعن الشِّعر، لأنّه لا يداوي جريحاً في الخصرِ أو من بُترت قدميه أو فقد بصره، لكن في هذا جحود مؤكّد. تركَ لنا بعضٌ من أهل غزّة شعراً سمت به أرواحهم قبل استشهادهم، حين كانت تحيط بهم آلات الدمار والقتل الصهيونية من كلِّ حدبٍ وصوب. لقد تركوا لنا رسائل حبٍّ وحياة من أرواحهم المهدّدة وقلوبهم المحاصرة بالرعب والخوف، وربما قليل من الأمل بأنّهم سينجون، وأنّ العالم الأصمّ لن يسمح للظلم أن يستفحل ويطفح بالموت والدمار هكذا.

من سيكونُ عنده ترف التفكير والقول إنّ الشِّعر منزَّهٌ عن السياسة، ويجبُ أن يعبّرَ عن الشخصي قبل الجمعي، لأنّه صوت الفرد أوّلاً وأخيراً؟ ومن سيكونُ عنده ترف التفكير ليُذكّرنا بتعريف الشاعر الإنكليزي وليام وردزورث أنّ الشِّعر هو "استرجاع للذاكرة في لحظة هدوء"؟ تبدو هذه التوجّهات والأفكار وكأنّها لم تأخذ بعين الحسبان أنّ الشِّعر قد يكون يوماً صوتَ من هُم على حافّة الموت، يُذكّروننا بإنسانيتهم، وبوجودهم، ويذكّروننا بأنهم كانوا هنا، وأنّ صوتهم في أحلكِ أوقاتِ حياتهم "سوف يبقى هنا" من خلال قصيدة أو بعضٍ من الكلمات التي نتذكّرهم من خلالها ونحفظُ وجوههم ونُبل أرواحهم.

هبة أبو ندى
هبة أبو ندى

هؤلاء خلاصة الشِّعر وذروة الحقيقة والحقّ، هؤلاء من رأوا الشِّعر فعلاً لا قولاً فقط، وهؤلاء من يستحقّون أن نُعرِّفَ الشِّعر على أوزانِ أرواحهم، لأنّهم ذروة الحبِّ وخلود المعنى أمام الظلم والموت.

هذهِ هبة أبو ندى تكتبُ قصيدتها قبل أن ترتقي: "نحنُ في الأعلى/ نبني مدينة ثانية/ أطبّاء بلا مرضى ودماء/ أساتذة بلا ازدحام وصراخ على الطلبة/ عائلات جديدة بلا آلام وبلا حزن/ وصحافيُّون يصوّرون الجنّة/ يكتبون في الحُبّ الأبدي/ كلُّهم، كلُّهم من غزّة/ في الجنّة توجدُ غزّة جديدة/ بلا حصار تتشكّل الآن"، وتكتب أيضاً: "إذا متنا اعلموا أنّنا راضون وثابتون وبلّغوا عنّا أنّنا أصحاب حقّ".

ويكتب الأستاذ الجامعي رفعت العرعير قصيدته الأخيرة التي انتشرت على نطاقٍ واسع، يريدُ من حياته أن تكون قصّة تتناقلها الأجيال، وهي فعلاً يجب أن تكون كذلك. ها هنا روحٌ ترتفعُ أمامنا وتقول لنا آخر وصاياها ضدّ الظلم والوحشية الصهيونية منقطعة النظير وكلّ أولئك الذين يدعمونها بلا أيّ وازعٍ: "إذا كان لا بدَّ أن أموت، فلتحيا أنت/ لتروي حكايتي". كان الرجل العظيم يعرف ما هو آتٍ، وكان يعرف أنّ للشعب الفلسطيني حكاية لن تنتهي إلّا باسترداد حقوقه وحرّيته من الغُزاة.

سليم النفّار
سليم النفّار

نتذكّر شعراءنا وشاعراتنا الذين استشهدوا، مع عائلاتهم، وسقطوا ظلماً في هذه المعركة. نتذكّر كلمات الفنّان محمد سامي قريقع: "إذا صار إلنا إشي، تذكّروا إنها من النهر إلى البحر"، ونتذكّرُ قول الشهيد فارس أبو شاويش: "عندما تتجرّأ علينا الحياة، ندرك أنّ الوقت الاحتياطي لنا في هذا الزمان قد أوشك على النفاد، وعلينا ممارسة لعبة البقاء في أيّ مساحة، كبيرة كانت أم صغيرة، لنتمكّن من مجاراة هذا الوقت، ونخلق لأنفسنا - ربما - حياة قصيرة لا تشبه أيّ شيء، سوى الصمت". ونتذكّر الشاعر الجميل سليم النفّار وعائلته، وقد استشهدوا في قصفٍ همجي آخر.

لا بدَّ من ذاكرة أعلى وأمتنُ من جبال الألب والهمالايا مجتمعَين لنحفظ أبناءنا وبناتنا الشعراء، ومن فاضت أرواحهم بالكلمات ذكرىً ونبلاً وحياةً قبل النهاية. هؤلاء مرايانا لماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وهؤلاء هُم معنى الحبِّ في هذه الحياة المُخترقة جسداً وروحاً. وهؤلاء دموعنا الهادرة على بلادنا فلسطين، علّنا نصل يوماً ما إلى ما نريد، وتتحقّق أمانتهم لنا أن نعيش أحراراً في وطنهم ووطن أجداننا ووطننا.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون