المتابع للحوار المُشتعل في إيطاليا بخصوص العدوان الصهيوني على غزة من خلال البرامج السياسية والمبادرات الثقافية والإنسانية التي رافقت تطوّرات العدوان، يُدرك أن الطوفان الذي اجتاح المنطقة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي لن يترك العالم كما كان قبله، بدءاً من الخريطة الجيوسياسية للمنطقة وصولاً إلى الساحة الثقافية.
وكانت كلاوديا فوزاني، أبرز الوجوه الإعلامية في إيطاليا، قد خرجت في أحد البرامج الحوارية على "القناة الوطنية الثالثة" في الأيام الأولى للعدوان لتؤكّد أن قطع الماء والكهرباء والطعام والوقود على غزة أمر لا بدّ منه، وتضيف بعدها، حرفياً، أن "المدنيين لديهم مخرج للفرار من ناحية مصر وعليهم استخدامه"! فوزاني التي تُعتبر من أهم الوجوه التلفزيونية المُدافعة في إيطاليا عن ملفّ الهجرة تُخبر الإيطاليين صراحة أن الفلسطينيين هُم مَن يختار قتل أنفسهم بأيديهم، إن هم لم يتركوا أرضهم ليدَعوا "إسرائيل" تقوم بعملها! مباشرة بعدها طالعتنا الصحف الإيطالية بتصريح للعُمدة السابق لـ"بلدية رياتشي" في جنوب إيطاليا، ميمو لوكانو، أعلن فيه يوم 15 تشرين الأول/ أكتوبر أنه "مستعدّ لاستقبال النساء والأطفال والرجال ضحايا الحرب بالشرق الأوسط، في 'القرية العالمية' لرياتشي".
وفي الوقت الذي بادرت فيه صُحف اليمين على غرار "إلجورنالي" بالتنديد بهذه المبادرة واعتبارها تفتح الباب أمام "الإرهابيين" لدخول إيطاليا، صمَت خبراء القضية الفلسطينية كلّياً عن هذا الطرح الذي يُعمّق الجهل بخلفية الصراع في المنطقة، وقد لوحظ بالفعل أن التعليقات التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، مباشرة بعده، أخذت تزعم أنه "ما من أحد كان ليموت في غزة لو أن الإرهابيين سمحوا لشعبهم بالهجرة بدل استخدامهم كدروع بشرية".
الاحتلال غير موجود بالنسبة لهم والمسؤولية تقع على حماس
مباردة لوكانو التي تم تداولها على نطاق واسع في وسائل الإعلام كان يُمكن أن تصبح مدخلاً من أجل تثقيف الرأي العام الإيطالي بمعنى نكبة 1948، وتذكير العالم أن مَن خرج مِن فلسطين أول مرّة لم يعُد، وربما تنبيه الإيطاليين إلى أن المشاركة في منح فضاء مزعوم للفلسطينيين بعيداً عن أرضهم ينمّ عن جهل مُطبق بتاريخ الشعوب، إن لم يكن تواطؤاً لتبرير إبادتها في حال عدم الامتثال لعرض الاستقبال كما تقترح فوزاني.
إلا أن البروباغندا التي تُحيط بالعدوان على فلسطين هذه الأيام يبدو أنها أسقطت الأقنعة عن "أصدقاء فلسطين الزائفين" بتعبير مدير مجلّة "لالوتشي" الإيطالية، دافيدي بيكاردو، والذي اعتبر في افتتاحيةٍ له بتاريخ 27 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي أن فلسطين يتقاذفها هذه الأيام "أعداء وأصدقاء زائفون"، وإن كان الأعداء الصريحون هُم اليمين في إيطاليا، فالأصدقاء الزائفون هم بحسب بيكاردو اليسار "الذي يُدافع عن فلسطين على نحو تجريدي، من خلال صيغ مُبهمة لا يسقط عنها التنديد بالمقاومة، كما أنها تستنكر أعمال نتنياهو لدواعي اصطفافات أيديولوجية بحتة، مُبرّئة ضمنيّاً اليسار الإسرائيلي من المأساة الفلسطينية". وهؤلاء يقول بيكاردو تمثّلهم صحف كجريدة "ريبوبليكا" اليسارية، وهي الصحيفة التي مهّدت بنعومة للدعوة لتهجير الفلسطينيين خلال هذا العدوان بكاركاتير نُشر يوم 14 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، للرسّام ماورو بياني يُصوّر أُمّاً فلسطينية تقف قبالة البحر وهي تحمل ابنها الصغير، مع سؤال يدور في خلديهما: "إلى أين نذهب؟".
في المقابل وصف المؤرّخ الإيطالي باولو بورغونيوني عرضَ لوكانو بأنه "مروّع" موضّحاً في حوارٍ على قناة "بيوبلو" أنه دليل على "الحضيض الأيديولوجي" الذي وصل له اليسار الإيطالي، والذي يتواطؤ علناً على تهجير البشر من أوطانهم باسم الإنسانية.
دفاع اليسار الإيطالي عن فلسطين مُبهَم ومندِّد بالمقاومة
التطوّرات على الساحة الإيطالية لم تقف عند هذا الحدّ بل وصلت عند خروج أقدم وأبرز الوجوه المُساندة للقضية الفلسطينية في إيطاليا على منصة إعلامية شهيرة، يتجاوز عدد متابعيها على فيسبوك وحدها 8 ملايين متابع، لتقول إن "قلبها قد انفطر" على الشابّات والشباب الإسرائيليين الذين هاجمتهم حماس يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وهُم يحتفلون، لكن دون إخبار المتابعين أن الأمر يتعلّق بمجنّدين في جيش الاحتياط الإسرائيلي. هذه المعلومة غير السرّية كان على المتلقّي الإيطالي أن ينتظر سماعها من على شاشة "بيوبلو"، مع الكاتب السياسي ألبيرتو فازولو الذي ذكر في حوار أجرته معه القناة المستقلّة، أن كلّ إسرائيلي سنُّه ثمانية عشر عاماً هو مجنّد في جيش الاحتلال، مؤكّداً أن "من كان يحتفل على حدود غزة كان يمارس فعلاً سياسياً"، ليُضيف الكاتب إن "التركيز الإعلامي الغربي على صور شباب وشابّات يمرحون بمنتهى البراءة ذلك اليوم، ليس سوى تلاعب بعقول الشبّان الغربيين ومحاولة للتأثير على الرأي العام".
المُثير للاهتمام في كل هذا وذاك أن شاشة "بيوبلو" التي تعتبر الشاشة الوحيدة في إيطاليا حالياً، ممّن يتبنّى السردية الفلسطينية هي قناة تُوصم من طرف مثقّفي اليسار بكونها شاشة تروّج لـ"الفكر المؤامراتي". عن هذه التهمة يُجيب مدير القناة كلاوديو ميسورا في العدد العاشر من مجلة "فووكو" (تموز/ يوليو، 2023) مؤكّداً أن "نظام السلطة العالمي وبعد أن أدرك أنه لم يعد قادراً على التحكّم في الرأي العام الذي كان يُديره من خلال بضعة محرّرين يتركّزون في وسائل إعلامهم الرئيسية، اخترع سلسلة من القواعد اللاديمقراطية، ومعها مجموعة من المنظّمات هدفها الوحيد تسفيه المعلومات المُستقاة من مصادر مستقلّة والتخلّص منها". وواصل ميسورا "هؤلاء لن يتمكّنوا سوى من تأخير وصول المعلومة لكن ليس حبسها"، متابعاً أنّ "مَن يحصل على المعلومة من مصدر مستقلّ لن يعود أبداً للوراء، ولن يتحمّل بعدها مُشاهدة البرامج التي يسيطرون عليها، لأنه يكون قد أدرك حجم الخديعة".
والواقع أن عمليات التسفيه التي طاولت أنصار الحقّ الفلسطيني غير التقليديّين، الذين تعرّف عليهم المُشاهد الإيطالي خلال العدوان على غرار الكاتبة والدبلوماسية السابقة إيلينا بازيلي، وصل حدّ وصفها بالمختلّة على "الهافنغتون بوست إيطاليا". في المقابل نجد الأصدقاء "الأيديولوجيين" لفلسطين يتنقّلون منذ بداية العدوان من استوديو مينستريم لآخر من أجل البكاء على النساء والأطفال "الذين لا مكان لهم للذهاب إليه"، مُطلقين بكل أريحية مبادرات مؤسساتية مؤدلجة لدعم الشعب الفلسطيني، تبقى كلمة السر فيها استجداء الرأي العام لإنقاذ غزة من حماس قبل "إسرائيل" نفسها.
مبادرات مُضلّلة تريد إنقاذ غزة من حماس لا "إسرائيل"
المتابع الجيّد للساحة الثقافية والإعلامية الأوروبية يُدرك، هنا، أننا لسنا أمام الحلقة الأولى من حلقات هذه "الخديعة" بتعبير ميسورا. ويكفي العودة لنصّ كتبه الشاعر الفلسطيني باسم النبريص على صفحات "العربي الجديد"، بتاريخ 17 آب/ أغسطس الماضي، يقول فيه: "في بناية الكومساريا، الكائنة بمدينة بروكسل، بجوار محطّة القطارات المركزية، لا يسألونك عن الاحتلال وما فعله بك من تنكيل وحصارات وحروب، فهو غير موجود بالنسبة إليهم. ولكي تنجو من الفخاخ، وما أكثرها في رؤوسهم، لا مناص من أن تتحدّث عن أهوال اقترفتها 'حماس' معك. ولهذا، لا بدّ أن تختلق كذبة تكون محبوكة وقابلة للتصديق".
الشاعر الفلسطيني المُقيم في بلجيكا في نصه المعنون "حبل الكذب الطويل"، يلتقي مع الشاعر الإريتري المُقيم في إيطاليا حميد بارولي عبدو والذي كشف في سيرته الذاتية، الصادرة مؤخّراً في إيطاليا، تحت عنوان "سيرة العرفان" ("منشورات دي كومبوري"، 2023) عن تحريض المنظّمات الإنسانية للاجئين على الكذب ودفعهم لتلفيق تُهم إرهاب لجِهات محدّدة من أجل الحصول على امتيازات العيش في أوروبا.
وفي الوقت الذي تُعدّ فيه هذه النصوص شهادات نادرة لعمليات تزييف صريحة لتاريخ الهجرة واللجوء المعاصر في أوروبا، نجد في المقابل سردية التيار السائد تُسيطر على المكتبات الإيطالية والغربية، شعراً وسرداً وفنّاً تتطابق كلّها مع المرويّة السياسية الرسمية في أوروبا مُترجمة على لسان بعض المُهاجرين أنفسهم، وذلك بعد أن فهم المستشرقون الجُدد لعبة ترك "التابع يتكلّم" بتعبير إحدى أكبر مُفكّرات نظرية ما بعد الاستعمار غاياتري سبيفاك.
وهكذا وبعد أن مُنحت الكلمة في وسائل الإعلام الكبرى خلال العدوان لريشة الفنّانين، وبعدها أشهر مؤيّدي ملفّات الهجرة من صحافيّين وسياسيّين، ثم أبرز أصدقاء فلسطين في إيطاليا من ناشطين جمعويين، أُحيلت للمعنيّين بالأمر أنفسهم من أجل الترويج لسردية التهجير الفلسطيني وتزيينها وذلك من خلال الصحيفة الأكثر انتشاراً "كورييري ديللا سيرا". وحيث نقرأ في عدد كورييري لمدينة فلورنسا تقريراً نُشر بتاريخ 21 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، عن قصة "نجاح" للاجئ فلسطيني بدأ بفقرة مؤثّرة تختصر كلّ شيء: "في فلورنسا تعلّمت معنى العيش بلا هموم. عندما كنت طفلاً، قام والداي بحماية براءتي بإحضاري إلى هذه المدينة التي أدين لها بالكثير. أدين لها أولاً وقبل كلّ شيء بحياتي".
وبالعودة للشاعر الفلسطيني باسم النبريص نجده في نصه بـ"العربي الجديد"، يسخر من رُعاة الكذب الإنسانويّين في أوروبا بجملة مدوّية: "نصيحة لكلّ اللاجئين: اكذبوا، تحصلوا على ورق، لأنّ حبل الكذب طويلٌ جدّاً في الأراضي الأوروبية". كل هذا يجعلنا نتساءل إن كنّا حيال منظومة متكاملة هي ما يسوّغ، اليوم، أخلاقياً لحرب "إسرائيل" على غزة من أجل "تحريرها". "حرّروا غزة ولو عن طريق القنابل"! يصيح مدير يومية "إلفوليو" السابق جوليانو فيرارا بأعلى صوته في إحدى المظاهرات الداعمة لـ"إسرائيل".
وقد يتساءل القارئ العربي ممّن؟ "قال للمحقّقين إنّ 'حماس' شبحته لمدّة 14 ساعة متواصلة معلَّقاً من رجْليه في السقف، مثل خروف مذبوح ومعلَّق من عرقوبه، ثم راح يبكي، وأضاف إنهم سرقوا ماله، أيضاً. يا للهول! عندما سمعت من لسانه القصّة، فطست من الضحك. لكنه الضحك المُبكي". يكتب مجدّداً النبريص في نصه الذي نشره قبل أشهر قليلة من هذه الحرب، ويكون بذلك أدباء فلسطين قد عادوا مرة أُخرى لتسجيل خيوط مؤامرة جديدة حيكت لأرضهم، حتى وهُم في المنفى.
فهل نحن أمام نكبة ثانية ومشروع تهجير قسري يتمّ التمهيد له بدواعي "حماية براءة الأطفال"، و"تحرير غزة"، كما تقترح الآلة الإعلامية الغربية اليوم؟ أم إن ما نشهده هو إبادة جماعية حُبكت دعامتها الثقافية وطُبخت بعناية طيلة سنوات على نار هادئة؟ إبادة سيتفرّق دمها بلا شك بين قبائل النُخب الثقافية الكاذبة كلّها: شرقها وغربها، ويسارها قبل يمينها.
* روائية ومترجمة جزائرية مقيمة في إيطاليا