نجَح المخرج الوثائقي البرازيلي جواو موريرا ساليس في الاقتراب من عبقري البيانو نيلسون فريري ليصوِّره داخل وخارج البرازيل، على مدار عامين، ليكتملَ الفيلم عام 2003. كان فريري وقتذاك في أواخر الخمسينيّات من عُمره، وقد بدا الرجل حَيِيَّاً ذلك الحياء المُزمن الذي لا يتعلَّق بالبشر، بل بأيِّ لمعة ضوء يُمكن أن تُربكَ عينيه، أي لمعة يَهربُ منها حتّى لا يتورَّط في نجوميّة مُغرِية، لكنّها مُكلفة لشخص حسّاس، مفاتيح البيانو تفتح على موهبته وعُزلته.
حضر فيلم فريري بقوّة في مهرجان "ثقافة اللُّغة البرتغالية" الذي اختُتم مؤخراً في الحي الثقافي "كتارا" بالعاصمة القطرية، وكان فرصة فريدة لتقديم فيلم وثائقي يُقنع فريري الذي رحل في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي عن عمر 77 عاماً، بالتحدُّث بلغته الوطنية في البرازيل وهي البرتغالية، على هامش لغة الموسيقى التي يغرق فيها ولا تحتاج إلى ترجمة.
متأخّراً بدأت شركات التسجيل الشهيرة إنجاز أُسطوانات لأعمال البيانو لموزارت وبيتهوفن وشومان وبرامز وديبوسي وشوبان أحد المفضّلين عند فريري، وصولاً إلى رحمانينوف. وقد ظهر فريري مُطوّلاً في مقاطع من حفلة وأثناء التدريبات على كونشيرتو بيانو لرحمانينوف، مثلما ظهر مع صديقة عمره مارتا أرغيريتش في عزف بيانو ثنائي.
لم يكن فريري منعزلاً خشناً، فهو لا يرفض عرض مُخرج أو لقاءً تلفزيونياً، إلّا أنّ على من يقابله أن يتحمّل مسايرة شخص وحيد راض بعزلته. يقول التوحيدي: "العزلة محمودة إلّا أنّها محتاجة إلى الكِفاية. وما الكِفاية إلّا القُدرة والاستغناء". فريري هو كذا، لا يريد سوى أن يكون حرّاً في أمتاره القليلة.
مبدع زهد في امتلاك أدوات التواصل أمام الكاميرا
إنّ الخشونة الكبرى هي ما عاينه فريري مع فقدان والديه في حادث سير عام 1967، وكان عمُره 23 عاماً، فزاد هذا من توحّده في البيانو، فلا تراه متوازِناً إلّا حين يجلسُ على كرسيّه بزاوية قائمة، وتبدأ أصابعه القصيرة المدبَّبة، تُخرِج الجنّ، وينال تصفيقاً عاصفاً، ثم يهرب إلى الكواليس ويشرب كثيراً من الماء، كما لو أنّه محموم. هذا النوع من المبدعين لا يمتلك، أو يزهد في امتلاك أدوات التواصل التي تجعله طبيعياً أمام الكاميرا. إنّه حين تمازحه صديقته التي يعرفها، وهو في عمر 15 وهي في عمر 18، وتذكّره بأيام زمن بعيد، يضحك كطفل والسيجارة لا تفارقه، إلّا وهو يعزف أو يستحمُّ أو ينام.
يمنحنا الفيلم لحظات معايشة، ولطولها، ربَّما نسي فيها فريري وجود الكاميرا، بينما كانت رفيقته المبادِرة دائماً وهي تمزح وتتمرّن معه، ثمّ فجأة تُعلن أنّ ثمّة مُشكلة في أحد مفاتيح البيانو، وتلجأ إلى الكولونيا لتنظيف المفاتيح كلهّا، ويستغرب فريري ويقول إنّه عادة يمسحها بالماء، وهي تردُّ بأنَّ الماء يسبّب الرطوبة. كانت الكولونيا التي استعملها قديماً، وكان أحد محبّيها منذ صنعها إيطاليّ في ألمانيا قبل مئتي عام، ومنحها اسم رقم منزله 4711.
يحسد فريري عازفِي بيانو الجاز، ويظهر وهو يتابع تسجيلاً لحفلة إرول غارنر (1923 - 1977)، مفتوناً بالمتعة والنشوة والسعادة التي يعزف بها غارنر الضخم الذي يكاد يبتلع البيانو، وهو بالمناسبة كان يحفظ غيباً، إذ لا يعرف قراءة النوتة.
بهذه المتعة كان يعزف غارنر، وعظماء البيانو في القرن العشرين، ويعدّدهم آرثر روبنشتاين (1887 - 1982) وفلاديمير هورويتز (1903 - 1989) وغويمار نوفيس (1895 - 1979)، وأخيراً صديقته مارتا أرغيريتش (81 عاماً). أمّا هو فحين يُسأل إن كان سيضيف اسمه إلى هذه الباقة التي ذكرها، فلا يأتي بشيء سوى الارتباك، وإخراج سحابة دخان السيجارة من منخريه.
تُوفّي فريري في منزله، وكان بعد سقوطه وتضرّر كتفه عام 2019 قد أُجبر على عزلة عن العمل، فهجَمت جائحة كورونا لتبعدَه أكثر. وجاء عرض الفيلم ليقدّم لمشاهديه في الدوحة سيرةَ أحد أفضل عازفي البيانو في العالم، اشتغل عليها المُخرِج بذكاء على مدى عامين، ليقترب أقرب مسافة ممكنة من مبدع ذي حساسية خاصة.