تسري الأسطورة بوصفها روحاً في معجم الشاعر السوري نوري الجرّاح، ذلك ما يتبدّى للقارئ من خلال المجلّد الثالث من أعماله، الصادر ربيع هذا العام عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت. وتتركُ علاماتها الواضحة في رؤية الشاعر سواء عن العالم من حوله، أو الزمن الذي تتكوّن فيه الأشياء.
إلّا أنّ المُعادِل لتلك الأسطورة، في أعمال الجرّاح الأخيرة التي تضمّنها المجلّد، ليس روحاً مثلها، بل هو التاريخ، وبالأدقّ التاريخ الراهن والمعاش بما هو دمٌ ولحمٌ ومصائر شعب تمزّقت. إنّه التأثيث الإنساني لتلك الروح، والذي وحده مَن يستطيع شدّها إلى واقعها، فلا يتركها تحلّق عالياً. ذلك أن التحليق الشعري العالي لطالما حوّل الأرض من دونه إلى مجرّد خريطة بعيدة، وهذا ما لا يُقوله الجرّاح، المشدود دائماً إلى موطنه. يكتب: "والآن، في دمشقَ/ لي صُورتان/ قبضةٌ تُهَشّمُ الباب/ داميةً/ وجبهَةٌ مفجُوجةٌ تطرُق/ لكأَنّني مُسَجّىً/ في ما أرى/ وذاهبٌ في مصيري"، ("مرثية بنات نعش").
لا، ليست لعبة أضداد تلك التي عادلت ما بين الإنساني والأسطوري، إنّما هو وعيُ الوَحدة المكوِّنة للأشياء، أو كما لخّص الشاعر والناقد الفلسطيني الراحل محمد الأسعد مفهومه عن "تراسُل الحواس" وأثره في الشعر، باستعارة مقولة إليوت: "أن نشعر بفكرة كما نشعر بشذى وردة". لذا، الأسطورة هُنا لا يُستلَفُ منها الترميزُ الكامن، إلّا لتربطَ أنوية هذا العالم ببعض، بمعنى آخر هي ذات حضور وظيفي وليس مجّانياً.
"أنا هو الفتى الذي يسند زُجاجَ الحانوت في قاع البلدة
وتَعشقُهُ بناتُ الظَّهيرةِ
وفي روايةٍ أُخرى قال: أنا لستُ هو
لا،
ولا حتَّى الغراب الذي ابتدَعَ الحكايةَ".
("موعد مع قابيل في مقهى عند النهر")
صنع الجراح موجته الخاصة عن تمثيل الأسطورة شعرياً
بهذا فإنّ صاحب "حدائق هاملت" (2003) يُفصح بسلاسة عن أن خطوات البشر المرسومة على الأرض لها إيقاعُها الذي تتلقّفه دروبُ المجرّة: "تعال نَمشِي تحتَ سماءٍ صامتةٍ ولها لِسانٌ حجرِيٌّ/ نمشي على السنواتِ". فكيف إذا كانت هذه الخطوات مثقلة بمأساة طِلاب الحرية، عندها يصبح السؤال عن الكيفية والهيئة التي يمكن لها أن تُرسَم بها قرب "بنات نعش" ومجموعات أُخرى.
لكن كلّ طَرْقة ضربها الشاعر على أوتاد الأسطوري جاوبتها بالمقابل قبّة التاريخ بالاشتداد والعلو، حيثُ يمكن وصف التاريخ في مجموعات الجرّاح التي تضمّنها المجلّد من "يوم قابيل والأيام السبعة" إلى "أنشودة يوسف"، بأنّه تذكير أبديّ بنزول المتعالي وسرَيانه المُمكن، ولكن بأية وسيلة؟ فالأمر يتطلّب حساسية الحدس الشعري، الذي هو أبعد من أن تشرحه نظرية أو تحيط به معادلة.
لو ترسّمنا الأسطورة أنطولوجياً مع الشعر العربي المعاصر، لَوجدنا أنّه يمكن التعامل معها وفقاً لموجات، حيثُ الموجة التأسيسية، إن صحّت التسمية، ترجع إلى روّاد التفعيلة، إلّا أنّ استحضارهم ذاك ظلّ نوعاً من التوق الذي لا يُدرَك، بمعنى أنّ الشاعر لا يستطيع التماهي مع الأسطورة من حيث القدرة فحسب، بل من حيث الرغبة أيضاً. عليه، يأتي استحضارُه لها مفصولاً عن مفهوم "التعالي" نفسه، إنّه خطابٌ ذو حركة صاعدة. ومن المفارقات حينها أنّ أكثر مَن جاء تمثُّلهم بالأسطورة مفصولاً هم شعراء التزموا الواقعية السياسية والاجتماعية وبشّروا بها، ودعَوا إلى تغيير الواقع وتحطيم قيود الماضي في الشعر كما في السياسة أو الثورة.
بالحدس والحساسية العالية جعل المتعالي يسري على الأرض
وهذا على عكس الموجات التالية التي راحت تغيِّر بنيوية الشعر العربي، وبالأخصّ مع قصيدة النثر (يُنظر في هذا السياق ما كتبه الشاعر عباس بيضون على صفحات "العربي الجديد"، في الجزء الثاني من مقاله "أطوار قصيدة النثر" الذي حمل عنوان "تخفّفاً من نبوءة التأسيس")، حيث صار النزوع الأسطوري موصولاً بذات الشاعر. إلّا أن الأسطورة لم تبقَ محتفظة بخصائصها القديمة، ولو تساءلنا عن مصير "التعالي" وأيّ شيء حلّ به، فسيكون الجوابُ بـ"اليومي"، تلك الموجة التي سوّت بالأرض كلّ محاولة، وجعلت معجم القصيدة يرتاح ما بين أريكة الصالون وكرسي مغبرّ في المطبخ بعيداً عن "التعالي". مع الانتباه إلى أنّ روح الشاعر ــ على مياومتها ــ ما كانت لتتنازل أحياناً عن موقع الآلهة أو أنصاف الآلهة على أقلّ تقدير، وظلّت تعرّف ذاتها من باب الاتصال بذلك الأثير.
لا نقدّم بهذه المقارنة بين الموجتين، من أجل تصنيف أي شكلٍ اتّخذته الأسطورة في مجلّد الجرّاح الثالث، بل للنظر في استلهامه لكلا الموجتين، مُعيداً من خلال "الوحدة" (وحدة الأسطوري والإنساني) كتابة موجة جديدة، ليس "التعالي" فيها فعلاً قاعدياً، أو جماهيرياً كما يُقال بلغة التزام أواسط القرن الماضي، حتى لو ظلّ في نتيجته بعيد المنال ومفصولاً، ولا اليومي يمتلك ترف الراحة للتأمّل في الأشياء القريبة، بقدر ما يدهمُه الوقت وهو يحاول التقاط أنفاسه بين قذائف تشقّ عليه سكينة بيته، لتُدمّر مأواه وترميه في عرض البحر محوّلة إياه إلى مُهجّر.
"الجنازيرُ الضخمةُ تتركُ بصماتِها على إسفلتِ القرى،
المَركباتُ العمياءُ تُرسِل الحِمَمَ إلى صورِ العائلة،
الأمهاتُ يهرعن بالصِّبْيَةِ من حائطٍ إلى حائطٍ، ويخبِّئن العذراء في ركامِ الستائرِ
جدرانُ الطِّينِ تتهاوى وسنابلُ الصيفِ تَتَقَصَّفُ..
صيفٌ مضى وصيفٌ تهيأ،
وصيفٌ وسيمٌ بياقةٍ داميةٍ حَمَلَتْهُ إلى البيتِ رياحٌ عاتية".
("الأيام السبعة")
على وقع التراجيديا يلمّ الجرّاح هذين المُعطيَين، إذ ليس التوليف بينهما في قصيدةٍ مجرّد عملٍ فنّي معزول عن مصائر السوريّين، ولا عملية اختيارية ينتقيها الشاعر بغاية جمالية فحسب. إنّها لحظة تقدَّم فيها التاريخ بكلّ صخبِه، بمدارس الشعر وموجاته وقوافيه التي مرّت، ثمّ أخذ بالتبدّي شيئاً فشيئاً، عن تعبٍ وقهرٍ وحُزن، فاسحاً المجال أمام الشاعر ليكشف عن موجته الخاصة التي تبني راهنيتها على التاريخ الراهن وهو يتحلّى بالأسطورة.
"ألأنّني قُدتُ السفينة مرَّة،
يَومَ فاضَ العماءُ ولم تعُد يابسةٌ هُناكَ
ألأنّني اهتديتُ بالأفُق
لأُنقِذَك من الهلاك
ألأنّني عمَّرتُ المدنَ، ورفعتُ الأسوَار وكتبتُ الرسائلَ
وأخرجتُ الرسُلَ
تُكافئني
بأن تُقفَلَ عليَّ اليابسَةُ..
فلا يعودُ لي على سَطحِ هذا الكوكَبِ المَجنُون
لا شرقٌ ولا غربُ
وما أرَى
من حُطام أَيَّامِي
تحت سماء أيَّامِي
سوى دُخانِ الحرائقِ
ورمادِ النهايَات".
("الخروج من المتوسط")
يبقى ما تقدّم مجرّد قراءة في جانبٍ من جوانب قصائد المجلّد الثالث؛ قصائد تحتمل وتنتظر قراءات نقدية متعدّدة وأوسع، وفيها الكثير ممّا يمكن الذهاب إليه والكشف عنه؛ فهي ليست تكثيفاً لتجربة الجرّاح الشعرية في العقود الثلاثة الأخيرة فقط، بل تستوعب، بالضرورة، تصادياً مع الأعمال السابقة، وبطبيعة الحال مع مجموعته الصادرة مؤخّراً بعنوان "الأفعوان الحجري: مرثية بَرْعتا التدمري لمحبوبته ريجينا".