لم يكتب أحدٌ قصّتهم حتى هذه اللحظة، هؤلاء الذين نستطيع اعتبارَهم قبيلةً فلسطينيةً مفقودة سُبيت وأُرسلت بعيداً عن الكرمل ومرج بن عامر، ووُزّعت على مدارس يهودية واسعة في بغداد والبصرة، مدارس أعطاها الجميع، وكأنما بتوافقٍ عجيب، اسم التوراة. فكانت هناك توراة لاجئين أولى... وثانية... وثالثة... وهكذا. وليستيقظَ أطفالُهم فيما بعد، فإذا هم من "سكّان التوراة".
لا يَعرف أحدٌ عددهم، فهم غير مُدرَجين في سجّلات "الأونروا"، أو في ذاكرة "الجامعة العربية"، أو في ذاكرة أيّ سجلٍّ في العالم. إنهم في التوراة فقط، وليس الأمرُ مجازاً، فهذه المباني التي كانت مدارس يهودية كبيرة حملت هذا الاسم نفسه... ولا أحد يعرف كيف ولماذا.
عددهم لا يردُ ضمن تعداد اللّاجئين الفلسطينيّين في أقطارِ اللجوء، فهذه الأقطار هي لبنان وسورية والأردنّ. إنّهم موجودون فقط في سجلّاتٍ رثّةٍ متآكلة الأوراق لدائرة اسمها "دائرة شؤون اللاجئين" التي تُشرف على شؤون العَجزة، وهي دائرة تابعة لوزارة الشؤون العراقية. ولم تستبدل الحكومة العراقية لافتة "شؤون الفلسطينيين" بلافتة "شؤون اللاجئين" إلّا في السنوات الأخيرة. أمّا قبل ذلك، في الخمسينيات والستينيات، ومنذ أن حُشروا في شاحنات الجيش العراقي المنسحِب من منطقة جنين (1949)، وأُرسلوا إلى العراق، فقد أُلصقت بهم صفة اللاجئين المجرَّدة.
حتى مراكز البحوث العربية، لا يبدو أنّها تعرف شيئاً عن اللاجئين الفلسطينيين في العراق
في المؤتمر الذي عقده المُشرفون على شؤون الفلسطينيين في الدول العربية أوائل كانون الثاني/ يناير 1996، ضمّ المؤتمرُ مندوبين من سورية، ولبنان، ومصر، والأردن، وفلسطين، والجامعة العربية، ولم يَرد ذِكرٌ لمندوب من العراق. وهذه ليست المرّة الفريدة بالطبع، فكلّ الإحصاءات التي تُنشر عادةً عن عدد الفلسطينيّين، بما فيها إحصاءات "منظّمة التحرير"، لا يرد فيها ذِكر الفلسطينيين في العراق. ولا يعرف الكثير من الباحثين الفلسطينيّين أن هناك وجوداً لفلسطينيين في العراق منذ السبي الأوّل.
حتى مراكز البحوث العربية، لا يبدو أنّها تعرف شيئاً عن هذا الأمر. ففي مقال تحت عنوان "قضية اللاجئين الفلسطينيّين: مبادئ ممكنة للحلّ الوسط على رغم تناقض المواقف" ("الحياة" 20 كانون الثاني/ يناير 1996)، يقول رئيس برنامج البحوث الإسرائيلية في "مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية" السيد عبد العليم محمد: "إنّ الأمرَ يتطلّب بالضرورة القيامَ ببحثِ حال اللاجئين في الأردن، وسورية، ولبنان بهدف استقصاء حقيقة أوضاعهم المعاشة والقانونية، ومدى اندماجهم أو هامشيّتهم في مجتمعات اللجوء... وإعداد قائمةٍ أو قوائم بالفئات والشرائح المؤهّلة أكثر من غيرها للعودة أو التعويض.. إلخ".
والواضح من هذه السطور أنّ الكاتب خالي الذهن تماماً من وجود الفلسطينيين اللاجئين إلى العراق منذ عام 1948. إنّهم قبيلةٌ ضائعة بكلّ معنى الكلمة، سقطت من السجلّات الرسميّة والذاكرة معاً، وتعرّضت كما سنرى للمحو لسانياً وثقافياً وككائنات إنسانية. ومع أنّ مجموع الشعب الفلسطيني في أماكن اللجوء الأُخرى سقط كتجربةٍ إنسانية ويتساقط من ذاكرة الثقافة الفلسطينية نفسها في تناسبٍ عكسي مع ارتفاع أو انخفاض مناورات القيادة السياسية، إلّا أنّ هذه القبيلة كان نصيبُها أشدّ قسوة. وقد تساءلتُ دائماً عن سبب هذا التجاهُل، فلم أجد جواباً. وكنتُ، وأنا أحد الناجين من أفراد هذه القبيلة، كلما رويتُ طرفاً من المتاهة التي ضاعت فيها، أجدُ أمامي أفواهاً فاغرة وعيوناً مندهشة تسمعُ لأوّل مرّة حديث القبيلة المنقرِضة وتجاربها.
الأمرُ بالطبع ليس أمرَ المناورات السياسية، ولا الشتات المؤلِم الذي فُرض على الفلسطينيّين، ومنعهم من التنقُّل والتجوال فقط (لم يحصل الفلسطينيّون في العراق على حقّ السفر بوثيقة سفر إلّا بعد العام 1958)، بل هو أمرُ ثقافة لم تنظُر إلى الفلسطيني إلّا كأداةٍ في خدمة السياسي، وأسقطت كلّ جوانب تجربته الإنسانية من حسابها.
* من تقديم الراحل محمد الأسعد (1944 ــ 2021) لرواية "نص اللاجئ"، التي كتبها عام 1999