نص اللاجئ (7): عالم يكاد يتحوّل إلى رغوة

26 نوفمبر 2022
من "متحف الشهيد"، الكويت 2 آب/ أغسطس 2022 (Getty)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "نصّ اللاجئ"، والتي لم تُنشَر في كتاب، وهي من أهم أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول/ سبتمبر 2021، وكان من طليعة كتّاب القِسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.


في أحد أيام كانون الأول/ ديسمبر من العام 1990، وجنود الاحتلال العراقي يتغلغلون في ثنايا وجودنا في الكويت، ويقتحمون لغتنا وعاداتنا ويومياتنا، ويقيمون كأيّ شيءٍ بلا معنى في الطُّرقات وتحت الجسور، لم يكن أمامي سوى الجدران الأربعة؛ المكتبة التي أُصِيبت بالصمت، وجرس الباب والهاتف، ووقفة الشاحنة، وإشارة الجندي على الحاجز. كلّ أشيائنا الأليفة لم تعُد أليفةً أو ذات معنى.

الخروج إلى الشوارع خروجٌ إلى الحطام والخراب، والدخولُ في الكتاب يبدو هرباً. "فجر الضمير"، كتاب بريستد، ظلّ مُلقى على طرَف المكتب. وهذه الحشود البشرية من الأصدقاء القُدامى لم تعُد رواياتها قادرةً على اختراق الصمت المفروض. خطابُ الغزو لم يكن مذهلاً بوقاحته، بل بجهله العميق، بهذه الضحالة التي تتّسم بها المدنُ المتهرِِّئة، والغبارُ الأبلهُ الذي يقتحم عليك فضاءك، وهذه اللغة التي لا تشير إلى أيّ مدلول.

لم يكن لكلِّ هذا أيّ معنى يختصره، ليس لأنه أكبر من المعنى، بل لأنه خارجه تماماً: خارج التاريخ والحدث والأطفال والحدائق والقصائد والأحلام والصحف، ودورة الليل والنهار. خارج الجمال الذي يعنيه الصباح، وتعنيه الظهيرة ويعنيه المساء، وعملك اليومي لاستكمالِ كتابة نصٍّ أو الإعداد للسفر، أو الحلم بامرأة عاليةٍ في أقصى التعب.

كان المحتلّون يجرّدون الأشياءَ من حواسّها وثقلها، ومعها نحن أيضاً نتجرّد من حسّيتنا، ونُحوَّل إلى ألفاظٍ، كلُّ العالم يكاد يتحوّل إلى رغوةِ ألفاظ، دال بلا مدلول. ولعل هذا الإصرار على محو الأشياء والناس والشجر والشوارع والذكريات، لهو فعل الاغتصاب والاستبداد مذ كانا. هما لا يتعاملان مع المدلول، إنهما يمحوانه. فهو الوحيد الذي يعرّي تجريدية اللفظ وخواءه ولا معناه... أسماء... وأسماء... وأسماء بلا مسمّيات. هذا هو عالم الدكتاتورية؛ هذا هو العبث في أصفى معانيه.

هذا هو عالم الدكتاتورية؛ هذا هو العبث في أصفى معانيه

المتعيّنُ والملموسُ، والإنساني غير الفائض، هو جنديٌّ عراقيٌّ يقف على رصيف الشارع حاملاً لعبة طفل، لعلّه فكّرَ أن يحملها إلى طفلِه حين يعود. من أين جاء بها؟ ربما كانت من المخازن التي اقتحمها هو وضبّاطه، أو ربما كانت مما اشتراه، لا أحد يدري. ويلوّح الجنديُّ للسيارات العابرة متوقّعاً أن تقف سيارة لتقلَّه، تماماً كما يحدث في شارع أي مدينة عراقية، من دون أن يدري أنه لم يعد جندياً بل لفظة مجرّدة في خطابِ الدكتاتورية التي دفعته إلى الكويت. وفجأة ً تنطلقُ من سيارةٍ مسرعة زخّاتُ رصاص، ويترنح الجندي وقد اتسعت عيناه دهشةً، ويهوى على الأرض مرتطماً بإسفلت الشارع.
 
جثةٌّ وبركةُ دماءٍ ولعبةُ طفلٍ؛ كم هي شاسعة المسافة بين الجندي وموته، وهذه اللعبة التي لم تصل إلى طفله ولن تصل أبداً.
    
المتعينُ والملموسُ والإنساني غير الفائض، هو شابٌ كويتي يُعتقل ويُغيّب طيلة أسبوع، ثم تعود به سيارةُ المخابرات العراقية إلى منزله وتقف أمام الباب. ويأمره رجلُ مخابرات ذو كرشٍ ومعطفٍ قصير أن يهبط ويمضي إلى منزله، فيهبط الشاب غير مصدقٍ ما يسمع ويرى، ويتّجه إلى الباب ووراءه رجل المخابرات المتمهل، فيتطلعّ إليه في حيرة، فيومئ له أن واصل سيرك، فيواصل سيره، ويقترب من الباب، ويتردّد قبل أن يضغط الجرس ثم يضغط. وهنا يسحب رجل المخابرات مسدّسه المضغوط بين كرشه وحزامه، ويصوّبه إلى رأس الشاب من الخلف ويضغط.

يترنّح الشابُ وقد اتّسعت عيناه دهشة، ويهوي على الأرض مرتطِماً بعتبة الباب في اللحظة التي ينفتح فيها، وتفاجَأ فيها امرأةٌ بمشهد زوجها وهو يحاول أن يتشبّث بالعتبة. فتصرخ وهي تحتضن الرأس الدامي. ويستدير رجلُ المخابرات عائداً إلى سيارته، وينطلق مُخلّفاً هذه المسافة الشاسعة بين امرأة وزوجها الذي لن تصل إليه أبداً.

تلغو الدكتاتورية دائماً بالوحدة، ويلغو منظّروها بالقومية الشاملة مُحتقِرين التفاصيل، أي ملامح الملموس. أما نحن الأقرب إلى الملموس، سواء ذلك الذي فقدناه، أم ذلك الذي أصبحنا نفقده يومياً، فقد كانت تُؤلمنا هذه المسافات الشاسعة التي أحدثها الغزو الهمجي بين اليد ولعبة الطفل، وبين الزوجة وزوجها، ولم تغمرنا رغوةُ الألفاظ، رغوةٌ قومية من هذا الصنف اختلقها، وليس الأمر مصادفةً، عددٌ من معلّمي اللغة... لا من معلّمي القيم الإنسانية. هكذا بدا لي المغزى عظيماً لمشهد ذلك الإنسان، الذي شاهدته ذات يوم يخرج عصراً من وراء سور بيته مُمسكاً بخرطوم مياه، ويبدأ متمهّلاً بريِّ الأشجار المزروعة أمام البيت، كما اعتاد دائماً غير ملقٍ بالاً للشاحنات العسكرية وهي تتمهّل في سيرها.

كان اهتمامُنا قليلاً بما يجري حولنا، ليس لأننا أقلّ الناس خوفاً، بل لأننا لم نفقد أنفسنا، ولم نتخيّل أنفسنا أو وجودنا مجرّد ألفاظ. كان الصمتُ ووجودنا الملموس هذا، والذي يؤكّده اهتمامنا بشجرة، أو بإحراق القمامة، أو بإبعاد الأطفال عن مشهدِ جندي بلا معنى، يلخّص لا معنى هذه اللحظة الساكنة. إنه الملموس الذي يواجه المحتلّين المتوتري الأعصاب دائماً.

على الطريق الصحراوي الممتدّ بين بغداد وعمان، لففتُ نفسي بمعطفي إلى جانب السائق الثرثار وهو ينطلق بسيارته في أعماق الليل. كانت النجوم على يميني والمرتفعات الداكنة، وأمامنا الشارع العريض. وأخرجتُ غليوني وبدأت أدخّن تحت النجوم (كانت ندرةُ السجائر هي السبب في لجوئي الى الغليون). 

إصرار على محو الأشياء والناس والشجر والشوارع والذكريات

لم يكن أمامي أنا اللاجئ سوى البحث عن ملجأ آخر، والخروج من  مجريات الأحداث العابثة هذه التي بدأ إعدادها في الثلاثينيات حين انحدر زكي الأرسوزي من الإسكندرون إلى دمشق حاملاً صورة العالم الواحد الثابتة، الجوهر الذي لا يتحوّل، صورةَ عالمٍ تضاءل فيه الوجودُ البشري إلى لا شيء، أو إلى فائض لا مبرِّرَ له. وليأتي حمَلة هذه الصورة ويقوّضوا وجودي في التسعينيات. 

في ديسمبر1990 إذن خرجتُ، وفي نيّتي أن أساهم في فضح اللّامعنى، ليظلّ لي أنا اللاجئ العريق الذي ذاق مرارة المعزل ومعسكرات الاعتقال والنبذ والاضطهاد، صدقي الذي لا أملك غيره. وحتى لا يقال ذات يوم إن بضعة جهلة امتلكوا المال والسلاح صادروا الفلسطيني، وسحقوا كلّ نبضٍ إنساني فيه، كما توقّع موظفو الخارجية "الإسرائيلية"، قبل ما يقارب الأربعين عاماً.

حُشرنا في شاحنات الجيش العراقي المنسحب من جنين، وأخذونا شرقاً على هذا الطريق الصحراوي نفسه، والذي سيعبره رجالُ غسان كنفاني لاحقاً هاربين من مخيّمات شرقي الأردن. هذا هو الطريق نفسه الذي عبرناه أطفالاً وكان أمامنا كما أتخيّل أفقٌ ما على الأقل؛ أفق الوعد بالعودة بعد شهر أو شهرين، ولكننا كبرنا من دون أن نشعر.
  
وها أنا أعود على الطريق نفسه بعد ما يقارب الأربعين عاماً، مُشرّداً مرّة أُخرى، ولكن ما هو أمامي الآن جدار مسدود. لقد أغلق الغزو العراقي للكويت الأفقَ أمام اللاجئ، وأكملَ الدائرة التي بدأت على سفوح الكرمل باقتلاع الفلسطينيين من بيوتهم وقراهم وإلقائهم في المعازل والمعسكرات وتحت كل الشموس، بأن جرّدهم من مصداقيتهم.
 
هكذا تنتهي الحكايةُ بعد دورةٍ طويلة، تمّ فيها تقويضُ الوضع الفلسطيني في الأردن أولاً، ثم في لبنان ثانياً، وأخيراً في الكويت. ولم يبقَ في الدائرة العربية مكان لفلسطين المُقدّسة. 
    
قبل عشرين أو ثلاثين سنة كانت فلسطين فكرةً مُقدّسة، أما بعد الغزو العراقي للكويت، والعبث الذي بدأ، فقد سقطت كلّ قداسة عن لفظة فلسطين. 
    
الجدارُ المسدود لم يكن هذا فقط، بل الحصيلة العجيبة لأكثر من عشرين سنة من دماء اللاجئين في مخيمات الأردن ولبنان والعراق وفي الكويت.

تُؤلمنا هذه المسافات الشاسعة التي أحدثها الغزو الهمجي بين اليد ولعبة الطفل

كنتُ أتوقّع، وهي المرة الأُولى التي أدخل فيها الأراضي الأردنية، أن أجد على الأقل وعياً بهذه المقامرة التي أُلقيت على طاولتها ورقة فلسطين بلا أيّ مبرر (مقامرة الغزو) أو أن أجد تعاطُفاً على الأقل مع الشعب الكويتي الذي مَحته دكتاتورية المحتل، أو مع ما يقارب نصف مليون فلسطيني وجدوا أنفسهم في العراء فجأةً.

كانت المنظّمات الفلسطينية، وأحزاب الأردن مشغولة بمهرجان احتفالي أُطلق عليـــه اسم "أسبوع الثقافة الفلسطينية". كانوا يرقصون على المسرح، ويتبادلون التهاني، وبدت لي هذه الرقصات بلا معنى، ولا تعلّق لها بما يحدث لنا على الإطلاق. 

وأتذكّرُ أن كل مهرجانات هذه المنظمات كانت تقام دائماً، وببذخ عقب كلّ كارثة تلمّ بالفلسطينيين، وكنتُ أنظر إليها وكأنها مهرجاناتُ كائناتٍ من كواكب أُخرى، تصلنا أخبارها وصورها عبر الأقمار الصناعية. 

وجاءت بعد ذلك مفاجآت هذا العالم العجيب الذي كان عاجزاً عن اكتشاف أن الأسماء ترتبط بمسمّيات، فتعلّم أن يطلق على الأشياءِ أسماءً من عنده حسب الرغبة والهوى. فالأشياءُ لا تَمنح العالمَ مسمّياته، بقدر ما إنّ مُسمّاها يأتي من هذا العالم العجيب. وهكذا تغيب كل حقيقة واقعية وملموسة. ألا نشاهد أن أضخم قيادي عربي لا قدرةَ له على تمييز الرأي من الواقعة؟

هكذا تحوّل العالم إلى أشياء وظواهر من السهل العبث بها، وتحوير أسمائها ومدلولاتها. يقول أحدهم مثلًا تعليقا على الغزو العراقي: "إن ضمَّ دولةٍ إسلامية إلى دولةٍ إسلامية أمرٌ شرعي". فأقول له، لنحدّد أولاً علاقة الدال بالمدلول؛ فهل ما يحدث من غزو وانتهاك وسلب يمكن أن نسميه ضمّاً؟ أم أن التسمية الصحيحة هي الغزو؟ وثانياً، من أين تسنّى لكَ أن تُطلق على دولة البعث اسم "دولة إسلامية"؟ هي دولة قبيلة أو عائلة بالأحرى، ولا تعلُّق لها بالإسلام من قريب أو بعيد. مقدماتكَ مضلِّلة تعمُّداً ونتائجك التي تصل إليها قائمة سلفاً. أنت تسمّي الأشياء كما يشاء لك الهوى. 

ربما كانت هذه هي مأساة التفكير العربي الراهن بشتّى تياراته؛ إنه لا يحترم الواقع الملموس ولا يقيم له وزناً، أو أنه لم يكتشفه بعد.

المساهمون