نصري شمس الدين وزمانه

01 مارس 2023
مع فيروز في فيلم "بياع الخواتم"، 1964
+ الخط -

إذا كانت أسطورة فخر الدين المَعنيّ، حاكم الإمارة اللبنانية في فترة من القرنين السادس عشر والسابع عشر، قد ألهبت - وما تزال - المخيّلة اللبنانية التاريخية حتى يومنا هذا، فإنّ مغنّياً ومُمثّلاً لبنانياً، لمع نجمُه في أواسط القرن العشرين، سيُعيد برفقة مسرح الرحابنة إلهابَ ذلك الوجدان المجروح، مستعيناً بحنجرته النَّدِية وقوامه المربوع ليمثّل دور فخر الدين، في تلك المسرحية الشهيرة "أيام فخر الدين" (1966).

كما أنّه لن يكتفي بإحياء الطقس، بل سيضيف إليه شيئاً من بهجَة مميّزة رغم كل المآلات المأساوية، وبذلك تكون حياتُه تجسيداً لمقولة أطلقها بحقّه منصور الرحباني: "كل ما إجانا فخر الدين جديد بيفل بكير".

"بعدكن بالبال" عنوان الفيلم الوثائقي (25 د) الذي بثّته شاشة "الجزيرة الوثائقية" قبل أيام، من إعداد باملا رزق الله وإخراج رولى بروش، والذي يتناول سيرة المغنّي والممثّل اللبناني نصري شمس الدين (1927 - 1983)؛ في محاولة لتسليط الضوء على واحد من أهمّ ركائز المسرح الرحباني. مغنٍّ اشتُهر بكايزماه، وقدرته على التفاعُل مع تلك الرؤية الأسطورية التي ظلّ يخطّها بحرصٍ الأخوان عاصي ومنصور (بالاشتراك - إلى حدٍّ ما - مع فيروز)، لا للمسرح بما هو عملية أدائية فحسب، بل بما يتعدّاه صوب الرؤية العامّة عن الحياة والعائلة والحبّ والوطن وسائر المقولات الكُبرى التي لا تنفصل عن بعضها.

يطلّ الفيلم على جوانب لا تخلو من بُعد تراجيدي في حياة الفنان

استضاف الفيلم مجموعة من النقّاد الذين تحدّثوا عن رحلة شمس الدين الفنّية، وعن حياته قبل ذلك كمُجاز في اللغة العربية وأستاذ مدرسة، ثم دراسته الموسيقى لمدة ثلاث سنوات في مصر، التي رأى أنه لو بقي فيها لكان قارب في إنجازه إنجاز فريد الأطرش. لكنّه قرّر أن يعود إلى لبنان ليخوض عالم الغناء والمسرح من باب الرحابنة، الذين وجدوا فيه الصورة - الرمز لما يريدون، ولتكون بداية التعاونات معهم عام 1952.

يؤكّد الناقد محمد حجازي ذلكَ الجانب السِّيَري من حياة الفنان الراحل واصفاً إياه بأنه "نصف المسرح الرحباني"، في حين يُفصّل الموسيقي غدي منصور الرحباني والباحث هشام مشرفيه مقوّمات الخامة الصوتية التي مكّنت لشمس الدين حضوره، والقدرة في أداء المقامات الشرقية بأدقّ صورة، خاصّة في الأعمال التي جمعته بفيروز. أما جورج وديع الصافي، فيتحدّث عمّا جمع الاسمين: وديع الصافي ونصري شمس الدين، من مُشتركات أهّلتهما ليكونا في صدارة الأغنية اللبنانية وحتى العربية، وإنْ كانت المنافسة بينهما قد أطّرت تلك القواسم، وهنا يتحدّث جورج عن أنّ العلاقة بين الاسمين بقيت في سياق "الزمالة المهنية".

كذلك حضر في الوثائقي مصطفى نصري شمس الدين الذي تحدّث عن جوانب من إرث أبيه الراحل؛ هنا يتحرّر الصوت من فخامة الغناء، ونستمع إلى تسجيلات عائلية عبر أشرطة كاسيت يطمئنّ فيها الوالد عن ولده المُسافر في أميركا. وكأنّ المشهد يهاجر من "مسرح قِيَم العائلة" وواجب التكافُل الذي يبدأ بـ"خناقة" وينتهي بـ"صُلحة"، كما في المشهد الشهير بمسرحية "سهرة الحب" (1971) بين الصافي (أبو صالح) وشمس الدين (شيخ نصري)، ويهاجر أيضاً من الأسطورة وإطارها ليتجسّد في واقع أكثر مرارة. 

بعد كل ما سبق، شارفت الرحلة مع الرحابنة على النهاية، وجاء ألبومُ "الطربوش" (لحّنه ملحم بركات/ 1980)، كعمل أول خارج تلك القوس؛ عمل مليء بالعِتاب والوقوف على أطلالِ ماضٍ قد مضى حقّاً. أمّا شمس الدين، الذي سيتنبّأ له منصور الرحباني بعُمر قصير، فسيسقط على أحد مسارح دمشق (1983)، ويتعذّر نقلُ جثمانه إلى لبنان بشكل يليق بقامة فنّية مثله، بسبب اشتعال الحرب الأهلية، ليضطروا إلى وضعه على ظهر إحدى حافلات النقل العام بين البلدين، في مشهد يُلخّص أزمة الثقافة والفن في زمن الحرب.

بدأ الفيلم بأغنية "يا دفتر الأيام"، وانتهى بـ"الطربوش"، تلك القفلة العِتابية التي يُرمى فيها رمزُ الوجاهة عن الرأس، لتُسدَل الستارة على مسيرة غنائية احتفت بالقوّة والصوت القوي واعتدّت بهما، وإنْ كان في جوهرها الكثير من كفكفة دموع الفقد والهجران.

المساهمون