من المقولات الجديدة التي انتشرت في بداية الثورة السورية، تلك التي تُخبرنا أن السوريين لم يكونوا يعرفون بلدهم قبل 2011. إذ إنهم اكتشفوا، في وسائل الإعلام والتواصل، مدناً وبلدات وتضاريسَ لم يكونوا قد رأوها أو حتى سمعوا عنها من قبل.
يمكن قول الأمر نفسه عن الفنون التشكيلية. يستطيع أيّ سوري، كما نفترض، أن يعدّد على أصابع يديه أسماء مخرجين وممثّلين، بل وأسماء كتّاب وشعراء ــ على الأقلّ من هؤلاء الذين عرفهم في كتب المدرسة والمسلسلات. لكنّه سيجد نفسه في حيرة عندما يتعلّق الأمر بذكر اسم فنّان تشكيلي واحد. بل إن اسم بيكاسو، أو دالي، حتى وإن لم يكن يعرف عنهما شيئاً، قد يبدو مألوفاً عنده أكثر من اسم لؤي كيالي أو أدهم إسماعيل.
للمفارقة، قد يحمل هذا الجهل بالتشكيل السوري جانباً إيجابياً، في إحدى القراءات. إذ قد يحيل على غياب الفنون البلاستيكية في معجم النظام البعثيّ وأدواته، وهو - كما نعرف - المعجم الذي رسم الخريطة المعرفية للسوريين على مدى عقود طويلة.
نستطيع القول، من دون مبالغة، إن التشكيل هو التعبير الإبداعي الأبرز عن مقولات الثورة
لم يكن هذا المعجم، في يوم من الأيام، تصويرياً. كان ولا يزال كلاميّاً، يقوم على إنشاءٍ مفارِق للواقع وغنائية بسيطة مهمّتهما استدرار الحماسة والعاطفة والخوف. أمّا اللوحة، التي تُري ولا تُطرب، تعرض من دون أن تشرح أو تُقنع، فلم تكن من بين خيارات النظام. التعبير البصري الوحيد الذي بدا قابلاً للاندماج في سرديّته الدعائية هو ذاك الإنشائي، الذي ينتمي إليه أغلب منتجات الدراما.
على أن هذه الحقيقة لا تُرَدّ إلى ابتعاد الفنانين عن الانشغالات السياسية. تُظهر أعمال وسيَر أغلب الفنانين السوريين المعروفين تأثُّراً بالسياسة وحواراً مع متغيّراتها: من لؤي كيالي ونذير نبعة اللذين عاشا الحلم العروبي وغنائيته وهزيمته، وصولاً إلى يوسف عبدلكي، الذي لم ننسَ بعْدُ خروجه قبل سنوات من سجون الأسد.
ولعلّ المسار الذي اتّخذته الفنون البصرية السورية، منذ 2011، دليلٌ آخر على هذا الهمّ السياسي في الحقل التشكيلي. بل إننا نستطيع القول، من دون مبالغة، إن التشكيل هو التعبير الإبداعي الأبرز عن مقولات الثورة، أو عمّا لم تستطع قوله. ثمة كتبٌ، بالتأكيد، وبعض الأبحاث التي نُشرت في هذا الخصوص. لكنّ الجادّ منها يُعَدّ على أصابع يد واحدة. أمّا الفنون البصرية، البلاستيكية منها خصوصاً، فالجادّ فيها لا يكاد يُحصى.
من شأن هذا الحضور الجديد للتجارب التشكيلية السورية أن يُخرجها من دائرة الجهل أو التجاهل، ومن كونها حظوة لعدد قليل من المختصّين والمهتمّين أو المقتنين. وهو أمرٌ بدأنا نرى ثماره مع تَداوُلٍ لصور لوحات ومنحوتات على نطاق واسع بين السوريين، وحتى خارج سورية. بل إن الجدّيّة التي يبديها العديد من الفنانين راحت تحرّض كتابات تتناولها انطلاقاً من حقول أخرى، كما فعل الباحثان نبراس شحيّد وغيّوم دفو في كتابهما "التدميرية تشكيلياً: قراءات فلسفية في الفن السوري المعاصر"، الذي تصدر ترجمته العربية هذه الأيام في بيروت.