يعود المناضل والكاتب الأردني نزيه أبو نضال (1943)، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أولى القصص الأولى التي قرأها طفلاً في مكتبة عائلته من ألف ليلة وليلة وسير عنترة وسيرة بني هلال والظاهر بيبرس، حتى وقعت بين يديه "قصة الحضارة" لـ ويل ديورانت وهو في السادس الابتدائي فتحول إلى كائن آخر خارج منظومة المسلمات، وبات قادراً على طرح الأسئلة.
ويشير إلى أنه حين التحق بعد نكسة حزيران/ يونيو عام 1967 بصفوف المقاومة الفلسطينية لم يكن مسكوناً بهواجس المثقف بل برغبة المهزوم العربي بالقتال المسلح لاستعادة الرجولة المفقودة والمساهمة في الرد العسكري على الهزيمة المذلة لاستعادة شرف أهدر حدّ المهانة.
كما يعترف بأن الكتابة بالنسبة إليه ليست هدفاً بل وسيلة من وسائل الصراع والتحريض والتبشير ونشر الوعي، ولا يظن أن بالإمكان تحنيط الكتابة بأشكال محددة، لافتاً إلى أنه لا تزال لديه مشاريع ما زالت حبيسة الأدراج، منها مخطوط كتاب منجز بعنوان "أسئلة الدراما العربية".
■ التحقت منذ ستينيات القرن الماضي بالمقاومة الفلسطينية، وأمضيت في صفوفها سنين طويلة في مواجهة أسئلة كبرى، ربما كان من أبرزها دور الثقافة في المقاومة، واستقلالية المثقف عن المؤسسة، وخرجت بإحباطات كثيرة قادتك لتلك المراجعة الجذرية التي قدّمتها في مذكراتك "أوراق ثورة مغدورة". لا تزال هذه الأسئلة حاضرة وبقوة أكبر اليوم في ظلّ استلاب المثقف العربي وحالة الاستعصاء السياسي التي نعيش.. هل ما زال هناك دور/ أدوار للثقافة اليوم؟ وأين هو المثقف المستقلّ؟
- حين التحقت عام 1967 مقاتلاً في صفوف العاصفة (فتح) لم أكن مسكوناً بهواجس المثقف بل برغبة المهزوم العربي بالقتال المسلح لاستعادة الرجولة المفقودة والمساهمة في الرد العسكري على الهزيمة المذلة لاستعادة شرف أهدر حد المهانة. وقد ترافقت تجربتي العسكرية بعمليات في الجولان والجليل وصولاً إلى حيفا، مع دور آخر كمدرب في معسكر الهامة ثم كأول مفوض سياسي لفتح في معسكر ميسلون، وما زلت أذكر كتاب التكليف الشفوي من أبو علي إياد قال ضاحكاً: انت بتحب الحكي السياسي روح ظلّك حشيهم سياسة حتى تشبع! وتذكرت كراريس فتح العشرة التي أعطاني إياها "أبو لهب" في القاهرة، قبل الانضمام للعاصفة.. فاعتمدتها كأساس في برامج التثقيف السياسي، إلى جانب عناوين أخرى عن تجارب الثورات الفلسطينية والعالمية.. وهذا الدور تواصل في عدد من المواقع العسكرية التي التحقت بها. بعد ذلك، كنت مع الشهيدين ماجد وحنا مقبل (أبو ثائر) نشرف على "جريدة فتح اليومية".
في هذه الرحلة الطويلة أستعيد دور المثقف في صلب التجارب العملية واليومية. ولاحقاً في بيروت كنت أحد ثلاثة يشرفون على مجلة فلسطين الثورة، إلى جانب الشهيدين كمال ناصر وحنا مقبل، إضافة إلى دوري كرئيس لفرع لبنان في "اتحاد الكتاب الفلسطينيين"، وكان يضم 500 عضو، كما كنت خلال المجابهات العسكرية أشغل مواقع عسكرية أو في إذاعات الثورة: زمزم عمّان ثم إذاعة درعا وبيروت ومسؤولاً عن إذاعة صوت لبنان العربي (المرابطون).
وأظن أن كل هذه التجارب العملية والميدانية شكلت، إلى جانب قراءاتي ودراساتي، المختبر لإطلاق كتبي اللاحقة: "كراس الشيخ عز الدين القسام"، و"الشعر الفلسطيني المقاتل"، و"جدل الشعر والثورة"، و"مواجهات سياسية"، و"أدب السجون" ليصل العدد إلى سبعة وعشرين كتاباً حول الرواية والقصة وأدب المرأة وغالب هلسا..
■ منذ بدايات انخراطك في العمل السياسي تنبّهت مع قلّة قليلة من المثقفين إلى معادلة كانت الأغلبية تفرّط بأحد طرفيها؛ الديمقراطية ورفض خيار التسوية. بعد حوالي نصف قرن، قطار التسوية في تسارع دون استعادة الحقوق الفلسطينية والعربية، ولا تزال الديمقراطية مستحيلاً في الواقع العربي، كيف تنظر إلى المشهد اليوم؟ وهل من إمكانية للتغيير؟
- السؤال يحمل في طياته عناصر الجواب، فالمواطن كما المثقف العربي، على مساحة الوطن العربي، ربما باستثناءات طفيفة، يخضع لوقائع استغلال وقهر هائلين، سواء على مستوى الرغيف أو الكلمة، فيما تتربع فوق قمة السلطة طبقة قمعية نهّابة تمتلك كل شيء وتؤجر دورها ومصالح بلادها لمراكز الهيمنة الرأسمالية العالمية ولاحقاً الصهيونية.
في زمان أفضل من هذا الزمان، كانت القيادات والكوادر الحزبية تنشط على امتداد الأمة وتعبر في عمّاد المعتقلات والتعذيب سنوات طوالاً، فيكون أن يتساقط البعض باستنكار الأحزاب الهدامة والولاء لولي النعم، ومن يصمد تفتح أمامه لعبة الانتخابات الديمقراطية الصورية. إلى حد أن مديراً عاماً لمخابرات إحدى الدول يعترف علناً بأنه هو نفسه نجّح 70 نائباً من أصل 100، ودقي يا مزيكة للديمقراطيات العربية. فيكون أن تتساقط المعارضات العربية في خيار اللاجدوى، إلا من رحم ربك إلى حين، ثم لنسقط منظمات فدائية فلسطينية في كارثة أوسلو، وأحزاب عربية في دهاليز العتمة.
وأمام هذا الانغلاق المحكم لم أجد في خاتمة مذكراتي سوى أن أحلم:
ثم نمضي نقاوم على كل الجبهات بما يشبه العبث، ودون جدوى.. فقد ضاع كل شيء: الثورة التـي كانت، طارت إلى أوسلو ونحرت في المقاطعة، ومن انتفض انطفأ قبل صياح الديك، وما تبقى تائه ما زال يبحث عن السؤال. ثم ماذا بعد؟
"أتلفت حولي لا أرى أحداً
ورفاق دربي قد غدوا بدداً
وقد تساوت العواصم والخيل
وبات من يرى كمثل من به رمدا
فشددت الرحال إلى عمّان
وقد ضيعت من استشهد ومن ضحّى ومن شهد
وأظل أحضن ما مضى غير أنـي لا أرى غدا
فهل من طفل طالع قد تبرعم بالندى
كفّه قد غدت كتاباً وكف يقدح الزند
يقرأ ذاكرة خيبتنا فيفهم المغزى المراد
ويمضي للأمام واثقاً بما وجد"
■ في منتصف الستينيات، بدأت الكتابة النقدية والقصصية أيضاً حيث تذكر في مذكراتك أنك نشرت نصاً قصصياً بعنوان "الممثل" في مجلة "القصة" القاهرية. أين أصبح "الممثل" بعد انقطاع طويل عن كتابة القصة القصيرة؟ هل ضلّ القاص طريقه إلى السياسة أم خطفه النقد، أم كلاهما؟
- بالنسبة إلي الكتابة ليست هدفاً بل وسيلة من وسائل الصراع والتحريض والتبشير ونشر الوعي، ولا أظن أن بالإمكان تحنيط الكتابة بأشكال محددة. في مرحلة مبكرة نشرت أول كتابة نقدية لمسرحية "أفول القمر"، من إخراج هاني صنوبر، احتلت صفحة كاملة في جريدة "أخبار الأسبوع،" وأثارت ضجة واسعة وعتباً كبيراً من بعض الممثلين فأدركت مبكراً مدى خطورة وتأثير الكلمة المطبوعة. في مصر نشرت إلى جانب قصة "الممثل" قصة ثانية بعنوان "الرغيف" في مجلة "الأدب العربي" الجامعية. وقد اعتمدت "الرغيف" كنموذج لفن القصة القصيرة في جامعتي حائل السعودية وجدارا الأردنية.
وفي عام 1964 نشرت في مجلة الثقافة التي كان يرأس تحريرها محمود تيمور مقالة نقدية عن رواية "قصر على النيل" لثروت أباظة. وفي نفس العام أجريت حواراً مطولاً مع نجيب محفوظ نشر في مجلة "الأفق الجديد" المقدسية. ولاحقاً كتبت قصة "السجن للرجال"، نشرت في "صحيفة الرأي". ولدي قصص أخرى لا تحضرني أسماؤها، ولكنني أذكر وقائعها كما نشرت ثلاثين حلقة عن رحلتي إلى بلاد واق الواق.
■ كانت لك مساهمة مميزة في الكتابة الدرامية ونقد الدراما أيضاً من خلال ما كتبته للإذاعة والتلفزيون من مسلسلات وبرامج، إلى جانب مقالاتك النقدية في الصحافة الأردنية والعربية. كيف تراجع اليوم تجربتك في ضوء ما تقدّمه الدراما الأردنية والعربية عموماً؟ هل لديك مشاريع ما زالت حبيسة الأدراج؟
- بداية لدي مشاريع ما زالت حبيسة الأدراج، منها مخطوط كتاب منجز بعنوان "أسئلة الدراما العربية"، أما مساهماتي الدرامية الإذاعية فتزيد على 400 ساعة، شارك بعضها في مهرجانات الدراما التي تعقد بالتتابع بين القاهرة وتونس وفزت فيها بسبع ميداليات ذهبية وفضية وبرونزية.
وملاحظتي الأساسية على الدراما العربية، ولا أعمم، أن الدراما الإذاعية ذات محمول ثقافي يتقدم كثيراً على الدراما التلفزيونية، بالطبع مع رفع القبعة لدراميات تلفزيونية مدهشة مثل أعمال أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبد الرحمن ووليد سيف، ومسلسلات استثنائية مثل أم كلثوم ورأفت الهجان.
■ كتبتَ وساهمتَ مع آخرين في كتابة سيرة العديد من المثقفين والمبدعين والمناضلين مثل إحسان عباس وأبو سلمى والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وكمال ناصر وماجد أبو شرار وغالب هلسا وغيرهم. هل كانت كتابتك حول تلك الشخصيات تنبع من خياراتك الشخصية دائماً، وإلى ماذا كنت تستند في خياراتك؟ وما الذي تطوّر مع الزمن في هذا النوع من الكتابة لديك؟
- ربطتني علاقات حميمة مع جميع من ذكرت، ويرقى بعضها الى مرتبة الصداقة مثل ماجد أبو شرار وغالب هلسا. وكل من هؤلاء هو صاحب مشروع معرفي أو جمالي أو نضالي، ومن هنا بالضبط علينا أن نبرز هذه القامات ونسلط الضوء عليها كنماذج تشكل قدوة تحتذى لجماهير شعبنا. وفي سياق آخر، أنا فخور بالاهتمام وتسليط الضوء على مواهب إبداعية مدهشة مثل زياد قاسم وزهرة عمر ومهند العزب.
■ قلتَ في مقابلة صحافية سابقة، إنك فقدت خلال ترحالك وتنقلاتك لمدة خمسة وعشرين عاماً بين عمّان والقاهرة ودمشق وبيروت ثم دمشق وعمّان خمس مكتبات كبيرة، كانت آخرها في بيروت وضمت أكثر من عشرة آلاف كتاب.. كيف يمكن أن تصف علاقتك بالمكتبات الخمس المفقودة، ما الذي تفقده منها وما أثره عليك.
- حين صحوت على الدنيا كان في بيتنا مكتبة تراثية متواضعة فيها قصص الزير سالم ضدّ قوم جساس، وألف ليلة وليلة وسير عنترة وسيرة بني هلال والظاهر بيبرس وحمزه البهلوان، وحكايا الشطار والمحتالين دليلة وعلي الزيبق والسندباد، كما كان يزورنا في بعض الأمسيات منشد ضرير على الربابة ملحناً حكايات من التراث مما وسّع من عوالم الخيال والغرابة وقادنا إلى عوالم الكتاب من القصص البوليسية إلى مغامرات الفرسان الثلاثة، ثم صرنا نقرأ أي كتاب يقع بأيدينا إلى درجة أنني قرأت "قصة الحضارة" لـ ول ديورانت وأنا في السادس الابتدائي، فتحولت إلى كائن آخر خارج منظومة المسلمات، وبت قادراً على طرح الأسئلة، وأظنني من هناك بدأت. صار الكتاب رفيقي والمكتبة حيث أكون، وأعظمها مكتبة في بيتي ضمت حوالي عشرة آلاف كتاب أهديتها لمكتبة الطائفة الدرزية القريبة حين تقرر أن نغادر بيروت.
بالنسبة لمكتبتي الحالية (3000 كتاب)، تحالفت في زمن الكورونا أسباب استدعت نشر إعلان بيعها على فيسبوك، ولم أكن أنتظر سوى أن يرن الهاتف لراغب في الشراء، فكان أن اجتاحتنا عاصفة من المحبة والاحتجاجات، خاصة من كوادر فتح في الداخل، ومن الراغبين في دعم صاحبها فلا يجوز أن يضطر نزيه أبو نضال إلى بيع مكتبته، وكنت بلا دخل ثابت منذ قطعت "فتح" مخصصاتي بسبب كتاباتي ضد نهج التسوية وأوسلو عام 1983. وكنت آنذاك في دمشق وممنوعاً من العودة لبلدي الأردن أو الحصول حتى على جواز سفري، حتى عام 1991، حين سمح لي بالعودة، وبضغوط من نواب أمثال فخري قعوار ومنصور مراد. ولكني بالطبع ممنوع من العمل في دوائر الدولة لأنني أنتمي إلى الثورة الفلسطينية التي قطعت مخصّصاتي منذ أربعين عاماً، وكان عليّ خلالها أن أُعلن التوبة أو الولاء، فلم أفعل حتى لو اضطررت لبيع مكتبي، فكان أن سوّي وضعي المالي بقرار رئاسي دون أن أسوّي موقفي ضد صفقة أوسلو التي دمرت ولا تزال القضية الوطنية الفلسطينية.