ربما لم يسبق، في تاريخ البشرية، أن انشغلت شعوب الأرض جميعها بمسألة المرض في وقت واحد كما هو الحال في يومنا هذا مع جائحة كورونا. كوكبيّة الحدث هذا تفتح باب التساؤل حول المرض فلسفياً، باعتبار أن الفلسفة تنشغل، منذ بداياتها، بمساءَلة المفاهيم في بُعدها الكوني، وفي تجربة المعنى المتمخّضة عنها.
في هذا السياق تأتي ندوة "الفلسفة والجائحة والمرض"، التي عقدتها افتراضياً، أمس السبت، دوريّة "تبيّن" للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية، التي تصدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، والتي قّدم فيها عددٌ من الباحثين والأكاديميين أوراقاً تسائل مفهوم المرض وتجربته انطلاقاً من الحدث الراهن الذي نعيشه. وتحمل الندوة عنوانَ جلستها الأولى، التي أدارها أستاذ الفلسفة في "معهد الدوحة" ورئيس تحرير دورية "تبيّن"، رجا بهلول، وتحدّث فيها كلّ من رشيد بوطيّب، وزواوي بغوره، ومشير باسيل عون، وعادل حدجامي.
في ورقته التي حملت عنوان "المرض، المجتمع والحرية: مقدمات للفهم"، حاول رشيد بوطيب تتبّع العلاقات الممكنة بين هذه المفاهيم، ساعياً إلى موضعة المرض في بُعده الاجتماعي، رغبةً في عدم ترك المسألة حكراً على العلماء وعلى حقل الطب الذي يصفه، في تلميح إلى هايدغر، بأنه لا يفكّر، مثله كمثل التقنية. انطلق رشيد بوطيب من تعريف سلبيّ للمرض يتّفق عليه كلّ من الفيلسوفين، الأميركي هوغو تريسترام إنغلهارت، والألماني هانز جورج غادامير. يعرّف الفيلسوفان الصحّة باعتبارها رديفاً لاستقلالية الفرد، ما يجعل المرض، في المقابل، غياباً لهذه الاستقلالية، على أكثر من صعيد. يحاجج بوطيب، وهو أستاذ الفلسفة المعاصرة في "معهد الدوحة" ومدير تحرير "تبيّن"، باجتماعيّة المرض، استناداً إلى قراءة لعدد من نصوص فرويد وألكسندر ميتشيرليش، اللذين يؤكدان في دراساتهما النفسية على الهوية الاجتماعية للاعتلال.
المرض، في التصوّر الحديث بشكل عام، متأصّل في بنية اجتماعية
لكنّ التفسير البيولوجي والنفسيّ الذي يقدمانه لا يكفي، بحسب بوطيب، ما يستدعي الاستعانة بأطروحات الألماني أكسيل هونيث. يحاول الأخير تجاوز أطروحات فرويد وميتشيرليش التي يصفها بأنها لا تصمد أمام النقد، باعتبار أنها تربط المرض الاجتماعي بين أعضاء المجتمع فحسب، ولا تأخذ بعين الاعتبار النظامَ الاجتماعي الذي لا يمكن اختازله بأعضائه. ويرى هونيث، بحسب بوطيب، أن خطأ فرويد وميتشيرليش يكمن في الانطلاق، لفهم المرض، من العلل النفسية التي يشخّصها الطبيب، في حين لا يمكن للأمراض الاجتماعية أن تُعاد إلى علّة فيزيولوجية.
من جهته، قدّم زواوي بغورة بحثاً في مفهوم المرض لدى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، تحت عنوان "المرض بصفته تجربة وخطاباً". وكما لدى بوطيب، اعتبر بغورة أن المرض لدى فوكو، بل وفي التصوّر الحديث بشكل عام، متأصّل في بنية اجتماعية، ضارباً على ذلك مثالاً بتحليل فوكو لتاريخ الجنون، حيث يرى الفيلسوف الفرنسي أنه لا يمكن للجنون أن يكون سابقاً على المجتمع وأجهزته ومعاييره. ذلك أن الجنون يولد كظاهرة مع محاولة المجتمع إقصاءه باسم مُثُله ومعاييره. ويشير أستاذ الفلسفة المعاصرة في "جامعة الكويت" إلى أن فوكو يربط بين ولادة الطبّ الوبائي وضرورة وجود أجهزة إدارية قوية، مثل جهاز الشرطة، مذكّراً بقوله إنه "لا يمكن أن يكون هناك طبّ وبائي من دون شرطة".
بغورة يذكّر بملاحظة فوكو أن الطب الوبائي لم يعد، كما السابق، مجموعةً من المعارف والتقنيات التي تهدف إلى شفاء المرضى وعلاجهم، بل أصبح خطاباً يسعى إلى معرفة "الحياة الطيبة" والتعريف بها. أي أنه، بعبارة أخرى، انتقل من المعرفة الوضعية المحايدة إلى معرفة معياريّة. وفي ملاحظة تاريخية منهجية، يشير الباحث إلى أن مفهوم المرض يسمح بتجاوز القراءة السائدة لأعمال فوكو، والتي تُقسم فيها هذه الأعمال إلى مرحلتين، هما الفترة الأولى التي تشمل كتاباته حول الممارسات الخطابية، والفترة الثانية التي تشمل نصوصه حول ممارسات السلطة. ويرى بغورة أن مفهوم المرض، الذي لم يغب عن كتابات فوكو، يتيح قراءة مسيرته كاستمرار غير منقطع وإعادة نظر دائمة في اشتغالاته السابقة.
ثالث المشاركين في الندوة كان الأستاذ في الجامعة اللبنانية مشير باسيل عون، والذي تركّزت مداخلته حول مفهوم الانعطابية في الكائن البشري. وفي تحليل عون، المستند إلى قراءة لهايدغر وبول ريكور، ليست الانعطابية بصفةٍ عابرة للكائن البشري، بل هي وضعيته الطبيعية، التي يحاول أن ينساها أو يتناساها ليحيا. وهو يذكّر، مستحضراً هايدغر، بأن الحياة ما هيَ إلا تدرّب تدريجي على الموت، ما يعني أن الانعطابية هي بنيته الوجودية. يميّز عون بين ثلاثة ضروب من الانعطابية: البيولوجية التي تنهك الجسد وتترك أثراً عليه؛ الكيانية أو الأنطولوجية التي ترتبط بالفهم الأول، لكن التي تمتّ لمسألة اعتلال الكينونة، وهي علّة العلل؛ والانعطابية الوجدانية النفسانية، المرتبطة بالفهمين الأول والثانية، والتي تعني شعور الإنسان بانعطاب في هيكله الجسدي وكينونته، وبعدم قدرته على امتلاك ذاته امتلاكاً أصيلاً.
وفي الورقة الأخيرة، تقاطع عادل حدجامي مع أطروحة مشير باسيل عون بالقول إن الإنسان المعاصر، الذي يسميه الإنسان الديجيتال، يتناسى حضوره المادي، المصنوع من لحمٍ، والذي يمثّل المرض شكلاً من أشكاله. وهو يرى أن هذا النسيان يؤدي إلى اعتقاد البعض بأن المرض شيء مؤقت، أو نشاز لا ضرورة له، أو حدث عابرٌ سوف ننساه في غضون أسابيع أو أشهر. هنا، يوجه الباحث وأستاذ الفلسفة في "جامعة محمد الخامس" النقد لهذه الرؤية، أو اللارؤية، التي تميّز الإنسان الديجيتال المأخوذ تماماً بالصور وبالحياة الافتراضية، حدّ نسيان بعض من أساسات كينونته. يذكّر حدجامي بأن المرض ليس علّة وظيفية تصيب أحد الأعضاء، بل هو "كيفٌ من الوجود"، بل إن الوجود في العالم مشروطٌ، بحسبه، بقابليته للانعطاب.