مَرت أوكسوز: صناعة النشر في تركيا القرن التاسع عشر

11 ابريل 2023
مطبعة من الفترة العثمانية
+ الخط -

تُركّز معظم الأبحاث الأدبية في تركيا على النصّ والمحتوى. وعلى العكس من ذلك، يوجد عدد قليل للغاية من الدراسات حول البيئة والظروف التي يتكوّن فيها العمل الأدبي، وتناوُل التأليف كمهنة، وخطوات عمَلية النشر. من هنا تأتي أهمية كتاب "الكاتب والمطبوعات: مهنة الكتابة في القرن التاسع عشر وأنشطة النشر في مُحيط الباب العالي"، للباحث والأكاديمي التركي مَرت أوكسوز، الصادر حديثاً عن "دار ليبرا"، ويُعدّ من أكثر الدراسات شمولاً وأهمية في هذا المجال.

يَستهلّ أوكسوز دراسته بالحديث عن اختلاف القرن التاسع عشر عن القرون السابقة له، من زاوية تأثير الطباعة والنشر في البيئة الثقافية. ويعرض الباحث تاريخ المطبعة في الإمبراطورية العثمانية، وأسباب تأخُّر إدخالها إلى الأراضي العثمانية لما يقرب من ثلاثة قرون، وكيف تغيَّرت النظرة إلى المطبعة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

ويتناول الباحث مسألة رعاية الفنّانين العثمانيّين قبل القرن التاسع، ويؤكّد أنّ مسألة "حماية الفنّان" كانت مهمّة للغاية في الدولة العثمانية؛ حيث كان يُنظر إلى المخطوطات الأدبية على أنّها أعمالٌ فنّية ذات قيمة عالية. وقد أنتج هذا التقدير من رجال الدولة وأثريائها تقليد "الجائزة" التي كانت تُقدَّم إلى الكُتَّاب آنذاك. ويرى الباحث أنّ هذا التقليد له ذات منطق حقوق التأليف والنشر اليوم.

أُدرجت مسألة حقوق التأليف والنشر لأوّل مرّة عام 1857

ولعلَّ أول ما يلفت الانتباه من أفكار في القسم الأوّل من الكتاب، مناقشة الباحث للكتابة كمهنة في العصر العثماني. وفي هذا السياق، يتناول أوكسوز مغامرة الكاتب العثماني الشهير أحمد مدحت أفندي (1844 - 1912)، ككاتب، وهو أحد أهمّ وأبرز الأسماء الأدبية في القرن التاسع عشر؛ فهو أوّل كاتب، بدأ في كسب المال بقلمه، وحقَّق نجاحات عديدة في مجال كتابة القصة والرواية، وذهب إلى بغداد مع الوالي مدحت باشا، وساهم في إصدار صحيفة "الزوراء" هناك، باللغتين العربية والتركية عام 1869. وفي السنوات التالية، عاد إلى إسطنبول واستمرّ أيضاً في أعمال النشر والكتابة. ويؤكّد أوكسوز أنّ أحمد مدحت أفندي كان يتكسَّب خلال كل تلك السنوات من الكتابة، وأنه وفقاً للعديد من الوثائق، أوّل أديب يعيش من قلمه.

يُسلِّط الباحث الضوء، أيضاً، على التطوّرات التي شهدتها المطبعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، معتبراً أنّ هذه التطوّرات هي التي أجبرت المؤلّف على التكيُّف مع الظروف الجديدة، كخروجه من شخصيته، بدلاً من استخدام تقنية مخاطبة القارئ بشخصية الكاتب الحقيقية، مثلما فعل أحمد مدحت أفندي في رواياته، ومحاولة الوصول إلى جمهور أوسع من القُرَّاء. بمعنى آخر، ظهرت مسؤوليات جديدة على الكاتب، مثل البيع ومخاطبة الناس بمقالات صحافية. ويتناول أوكسوز تأثير ظروف القرن التاسع عشر على المهنة الأدبية، من خلال بعض كُتَّاب تلك الفترة، واكتساب الكاتب لهوية عامّة جديدة.

ومن بين الكُتَّاب الذين تناولهم الباحث، والذين شهدوا هذه التغيّرات، الشاعر والكاتب العثماني نامق كمال، وهو من أوائل أدباء تلك الفترة الذين عملوا في الصحافة. ويستشهد أوكسوز بجملة للشاعر والروائي العثماني مدحت جمال كونتي، التي تُلخِّص المغامرة الصحافية لنامق كمال، إذ يقول: "ذات صباح، خرج من بيته كشاعرٍ، وعاد كصحافي في المساء"، في إشارة إلى التحوُّل السريع لأدباء تلك الفترة إلى العمل الصحافي.

كما يتناول الباحث، ضمن هذه التغييرات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مسألة حقوق التأليف والنشر، التي ضُمِّنت، لأوّل مرّة، في لوائح الطباعة لعام 1857، إلى جانب مسألة الترخيص والعمل بحذر شديد في ظلّ هذه الأجواء؛ حيث كانت تراخيص الصحف والمجلّات مقيِّدة للغاية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني على وجه الخصوص. وتفيد المعلومات الواردة عن تلك الفترة، بوجود مشكلات حقيقية واجهها الكُتَّاب في أثناء مرحلة النشر بعد الحصول على الترخيص، أبرزها مشكلة الرقابة.

غلاف

وفي القسم المتعلِّق بالنشر، والمسمَّى "مطبوعات"، يركّز الباحث على أنشطة النشر في إسطنبول في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والانتقال من مرحلة بائعي الكتب المستعمَلة إلى النشر. ووفقاً لأوكسوز، فقد كانت إسطنبول عاصمةً لبيع الكتب المستعمَلة منذ القرن السادس عشر، وتركَّز وجود بائعي الكتب المستعملة في مناطق بيازيد والسوق المُغطَّى في الفاتح. وعندما انتشرت ثقافة الطباعة في القرن التاسع عشر، لم يكن بائعو الكتب المستعمَلة يبيعون الكتب فحسب، بل قاموا أيضاً بوظائف أُخرى، مثل التجليد.

يخصِّص الباحث فصلاً من كتابه لبائعي الكتب المستعمَلة، قبل انتشار الكتب على نطاق واسع. وفي هذا الفصل، يورد بعض الكُتَّاب الذين ذكروا في أعمالهم أماكن بيع الكتب المستعمَلة، المعروفة باسم "صحَّاف"، مثلما فعل الكاتب والصحافي أحمد راسم، فقد تناول بعض هذه الأماكن في منطقة إيمينونو في أعماله. ويتناول أوكسوز أيضاً بائعي الكتب الجائلين، الذين ظهروا في ذلك الوقت، واستمرّ وجودهم حتى وقت قريب. يجري التشديد بشدّة على دورهم المهمّ، ووفقاً للباحث، فإن أبرز هؤلاء الباعة هو الحاج قاسم أفندي، وكان الصدر الأعظم علي باشا زبوناً دائماً لديه.

تعرَّض الباحث أيضاً لموضوع أرقام طباعة الكتب والصحف في تلك المرحلة. ويذكر أوكسوز أنه بحسب الصحافي والناشر العثماني أبو الضيا توفيق بك، فإنّ الحدّ الأعلى لطباعة الكتب في الدولة العثمانية كان 2000 نسخة. وبحسب الباحث أيضاً، فقد ذكر نامق كمال أنّهم كانوا يطبعون ألف عدد من صحيفة "تصوير أفكار". ويذكر الباحث أنّ تسجيل عدد الكتب في التراخيص الممنوحة للطباعة عام 1875 كانت 1500 نسخة.

نُظر إلى المخطوطات الأدبية كأعمال فنّية ذات قيمة عالية

ومن الموضوعات اللافتة للانتباه في كتاب أوكسوز، مسألة النشر دون حقوق الملكية، والمشاكل التي واجهها الناشرون والكُتَّاب، وصراع الدولة مع قضية القرصنة. ويذكر الباحث أنه رغم محاولات اتخاذ إجراء قانوني في الدولة، إلّا أنّ القرصنة استمرّت في الازدياد يوماً بعد يوم. وقد ذُكر موضوع قرصنة الكتب في الدولة العثمانية لأوّل مرّة في لوائح الطباعة لعام 1857. جدير بالذكر، أنه بينما يوثق الباحث موضوع القرصنة بالوثائق، ذكر مثالاً مغايراً للسائد في ذلك الوقت، وهو الكاتب أحمد مدحت أفندي، الذي رأى أنّ القرصان يُسعِده بهويته ككاتب، بل إنّه لا يستطيع شكر القراصنة بما فيه الكفاية. إلّا أنّ الباحث يذكر موقفاً آخر للكاتب نفسه، ولكن كناشر وليس ككاتبٍ هذه المرّة، حيث ابتكر أحمد مدحت أفندي طرقاً لحلِّ مشكلة قرصنة الكتب من خلال ختم صفحاتها.

وأخيراً، من أبرز القضايا التي تناولها الكتاب مسألةُ عدم دفع أيّ حقوق عن الأعمال التي تُرجمت من أوروبا في الدولة العثمانية. ونظراً لأنّ الدولة العثمانية لم تكن طرفاً في اتفاقيات حقوق النشر الدولية، فلم تتعرّض لأيّ عقوبة أو ضغط. وفي عام 1923، كانت قضية حقوق النشر الدولية في المقدّمة بمعاهدة لوزان. وبالإضافة إلى ذلك، كانت الكتب المُترجَمة تكتفي بذكر اسم المترجم فقط، وليس المؤلّف، في بدايات عملية نشر الأعمال المترجمة.

إلى جانب كونه وثيقة مهمّة اعتمدت على العديد من الوثائق الرسمية والمذكّرات والرسائل، لتسليط الضوء على واقع النشر في القرن التاسع عشر، يتميّز كتاب الباحث التركي مَرت أوكسوز برصده لأبرز تغيّرات تلك الفترة، وكيف حمل الكُتَّاب هوية عامّة، بعد أن أصبحت الصحافة جزءاً من الحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى قدرة الباحث على خلق العلاقات بين عملية إنتاج الكتاب وطُرق تسويقه.

المساهمون