مينغزي.. الاستعارة كأداةٍ فلسفية

17 يونيو 2021
رسم لمينغزي من كتاب حول الفكر الصيني لإدوارد ويرنر، 1922 (Getty)
+ الخط -

نحن الآن في عام 319 قبل الميلاد، في ليانغ (Liang)، عاصمة دولة وي (Wei). لا ظِلّ للأشياء لأنّ الشمس تُشعُّ في منتصف الظهيرة. ملك ليانغ، الإمبراطور هوي (Hui)، قام بدعوة أكثر العلماء حِكمةً من كلّ أصقاع الأرض لتقديم مشورةٍ في الحُكم. لا تصل العين لعلوّ سقف القاعة المَلَكيّة، والبناء المزخرف يعمي البصر لدقّته، وصدى الصوت في صمت القاعة يخلق الرهبة والخشوع، وكأنّ الصدى تكرارٌ لخطأ الكلام. كلُّ مَن سيرى الإمبراطور عليه أن يصعد الدرج ويمشي تحت مرأى نظرته المهيبة. لا يُلام أكثر الناس كرامة وعزّة من الشعور بالخوف والقلق في حضرة جلاله. اليوم، اختارت القاعةُ الملكيّة الإصغاء لمينغزي (Mengzi)، الشاب الكونفوشيوسي المتقشّف.

انحنى مينغزي ببطء يكشف وَقارًا وثِقة، فقام الإمبراطور من عرشه ــ وقيام الإمبراطور دلالة الاحترام الشديد والأمان المبدئي ــ وقال له بمودّة: "أيها المعلّم الكبير... لا بدّ أنّك قطعت مئات الأميال وواجهات كِبار الصعاب ونجحت في كلّ المنافسات، كي تقف في حضرتي. بعد كلّ هذا، لا بد أنّ في رأسك أفكارًا ستجلب الربح والفائدة والنفع لحُكمي". قبل حتّى أن يردّ التحية بمثلها، وهو يقترب من الإمبراطور قاطعًا عرض القاعة، متكشّفاً ملامحه أكثر، وضع عينَه في عينهِ، وقال له مينغزي: "لماذا جلالتكَ تفكّر بالربح والنفع والفائدة؟ فكّر ببساطة بالاستقامة والإحسان".

حبس الجميع أنفاسهم، ودبّ صمتٌ كشف عن دبيب النمل بين الأغصان. كيف يتجرّأ هذا الشاب على معارضة الإمبراطور في أوّل جملةٍ نطقها أمامه. فورًا، قبل تعمُّق سوء فهم، ولإبقاء رأسه متّصلًا برقبته، أضاف مينغزي: "إذا قلتَ، جلالتكَ، كيف سأحقّق النفع لدولتي، فإنّ حكّام الولايات سيسعون إلى الربح فقط لأنفسهم. وسيصبح الربح القضيّة الوحيدة للنُبلاء والعَوام. الجميع: الشعوب والحكّام سيسعون فقط إلى الربح والمنفعة. عندها، كلّ عرش جلالتك سيصبح مهدّداً بجشع حبّ الربح ونزاعات الحصول عليه".

عند مينغزي، يرتبط الشر بالعوامل المحيطة لا بطبيعة البشر

لفتت شجاعة مينغزي وسداده في الرأي انتباه الإمبراطور، خصوصًا أنّه المعلّم الوحيد الذي لم يتملَّق الإمبراطور، ويُسمعه ما يريد سماعه. ردُّ مينغزي موقفٌ فلسفي أيضًا، إذْ يرفض الاعتماد على حسابات الربح والخسارة كمعيار وحيد في الحُكم الرشيد أو كدليل أخلاقي في الحياة. بنقده تحويل النفع إلى غاية بحدّ ذاتها، يردّ مينغزي بشكل واضح على النفعية الموهيزيّة (Mohist) التي كانت سائدة في عهده آنذاك. الموهيزيّة هي النسخة الصينية من الفلسفة النفعيّة الغربية. موقف مينغزي من النفعيّة يتوضّح أكثر بقوله: "الرجل الطيّب لا يخفق أبدًا في نيل الربح. السعي للربح من أجل الربح، الربح كغاية بحدّ ذاتها، لن يؤدّي إلّا إلى الخراب والدمار. في حين أنّ إحقاق الإحسان والاتّسام بالاستقامة هو ما يجب السعي وراءه، ووقتها لن يخفق المرء في نيل الربح". فمن هو هذا الشاب المتقشّف الذي يدافع عن "الطريق" (تاو) التي رسمها كونفوشيوس؟

المعلومات حول حياة مينغزي قليلة جدًا، كلّ شيء بحوزتنا قادم بدرجة أولى من كتاب اسمه ببساطة "مينغزي". وُلد في مدينة زو (Zou)، وهي مدينة صغيرة ليست بعيدة عن لو (Lu)، المدينة التي انطلقت منها الكونفوشيوسية. كل هذه المنطقة تتبع الآن إدارياً لمقاطعة شان دونغ في الصين الحديثة. غادر والده الحياة مبكّرًا، وعانت أمّه كثيرًا وهي تحاول تربيته في مجتمع أبويّ لا يرحم. رغم كلّ العوائق، أرسلته أمه إلى مدرسة كونفوشيوسية للتعلّم.

دعا لاشتقاق الأخلاق من العاطفة وليس من العقل كما فعل كانط

الكثير من الأقوال والأفعال يُنسب إلى أم مينغزي، السيدة التي ربّت ولدها اليتيم وحيدةً. وبغضّ النظر عن صحّة هذه الأقوال من عدمها، فإنها تقدم لنا فهماً معقولاً حول استخدام مينغزي للاستعارات الأدبيّة في صلب السجالات الفلسفيّة. الاستعارة كأداةٍ من أدوات المنطق. انتقلت الأم ثلاث مرّات وهي تبحث عن مكانٍ مناسب تعتني فيه بطفلها. سكنت مرّةً بالقرب من مقبرة، فصار مينغزي يقلّد رجال الدين، وهم يؤدّون شعائر الدفن وطقوس الترحّم، فخافت أن يتحوّل ابنها إلى رجل دين. سكنت مرّة بالقرب من سوق المدينة، فصار الطفل يقلّد الباعة المتجوّلين وتجّار السلع المتنقّلين، فخافت أن يصير رجل أعمال. سكنت أخيرًا بالقرب من مدرسة، فصار الطفل يقلّد حركات المعلمين وأسلوبهم في الكلام، فاستقرّت هناك لأنّ هذا ما أرادته.

بالتأكيد لن تتمكن هذه السطور من إعطاء نظرة واسعة ومعمّقة على كل جوانب فلسفة مينغزي. ولكنّ النقطة الأكثر أصالة في هذا التقليد الفلسفي الصيني هو زاوية النظر إلى الطبيعة البشريّة. وربمّا هذا المقطع، الذي يشرح تجربة ذهنية تخيّليّة، هو الأكثر شهرة وانتشارًا في كلّ فلسفته: "السبب الذي يدفعني إلى القول بأنّ البشر يمتلكون عواطف إزاء بعضهم البعض هو الشعور التالي الذي سيعيشه أي إنسان. تخيل بأنّك رأيت فجأة طفلاً على وشك السقوط في بئر. كلّ شخص يرى هذا المشهد سيشعر بإنذار داخليّ وتعاطف أوّلي وإحساس بالتأذّي. سيشعر المرء بهذه الأحاسيس، بغض النظر عن معرفته بوالدَي الطفل، أو حتّى لو كان يكره بكاء الأطفال".

النقطة المفتاحية في هذه التجربة الفكريّة هي كلمة "فجأة". ردُّ الفعل الناتج عن رؤية الطفل، وهو على وشك السقوط في البئر، هو ردُّ فعل فوري وطبيعي ومباشر. وقسوة الصورة توقف كلّ القدرات العقليّة وتعطل كل الحسابات (ولو لفترة زمنيّة قصيرة). مرّة أخرى: الحديث لا يدور هنا حول الفعل (Action) الذي يجب أن يقوم به المرء عند رؤيته للطفل وهو يسقط في البئر (إنقاذه أم لا). الفعل يخضع للإرادة، والإرادة تتّبع العقل. هنا يحدّد مينغزي موقفه بدقّة: اشتقاق الأخلاق من العاطفة، وليس من العقل. لأنّ افتراض وجود تعارض بين العاطفة والعقل هو محض وهم. ما تنفر من الأحاسيس يجب أن تنفر منه الأخلاق أيضًا.

عند رؤية طفل يسقط في بئر، فإنّ لحظة التجمّد الداخلي، حيث سكاكين حادّة تحزّ بالنفس، هي دليلٌ على وجود "برعم فضيلة"، كما يسمّيه مينغزي، داخل كلّ إنسان. وهذه اللحظة المشتركة بين كلّ البشر تؤكّد على الطبيعة البشرية الخيّرة مبدئيًا. لا شكّ أن كانط كممثّل عن العقلانيّة الأوروبيّة يقف على النقيض من هذه المقاربة. عند كانط المشاعر هي مؤقّتة وملموسة وعرضيّة ومضلّلة ومحدودة، والأخلاق عامّة ومجرّدة ومنظّمة ويجب أن تشتقّ من العقل. تعرّض مينغزي إلى الكثير من النقد حول افتراضه وجود برعم فضيلة داخل كل إنسان، لأنّ كثيرًا من البشر يفشلون في امتلاك هذا البرعم. ثمّة بشر يفتقرون إلى الحدّ الأدنى من التعاطف والقدرة على التضامن الإنساني. القتلة التسلسليّون، ممارسو الشرّ المحض، مثال على ذلك. بعبارة أخرى: ربما يوجد شخص سيشعر بالرضا والسعادة عند رؤية طفلٍ يسقط في بئر. وهنا يردّ مينغزي بمثال تلعب فيه الاستعارة الأدبية دورًا فلسفيًا دقيقاً.

في حديثه عن هذه "الحالات النادرة"، أي البشر الذين لا يملكون برعم الفضيلة، يقول مينغزي: "كان جبل الثور (اسم جبل في الصين) مخضرًّا بالأشجار ومليئًا بالحياة. ولأنّ الجبل وقع بالقرب من مدينة كانت تتوسّع بالتحضّر، قطعت فؤوس البشر كلّ الأشجار. رغم أنّ البراعم الصغيرة حاولت الحياة مجدّدًا، إلّا أنّ الأغنام والأبقار أكملت عليها بالمضغ. لم يبقَ برعم واحد قادرٌ على التعويض، وصار الجبل قاحلاً كصحراء. الناس الذين ينظرون إلى هذا الجبل الآن، لن يصدّقوا بأنّه كان مخضرًّا ومتألّقًا بالأشجار في يوم من الأيام. فهل الصحراء القاحلة هي فعلاً طبيعةُ الجبل الحقيقيّة؟". القاتل المتوحّش الذي فقد برعم الفضيلة هو كالغابة التي حوّلتها الفؤوس إلى صحراء قاحلة، وأكملت عليها الماشية بقتل احتمالات الاخضرار مجددًا. برعم الفضيلة يحتاج إلى بيئة مساعدة للنموّ والازدهار. القهر السياسي والإذلال الجسدي والتجويع والتنشئة السيئة، هي كلّها معوقّات تُدمّر إمكانية تفتّح برعم الفضيلة. عند مينغزي، العوامل المحيطة هي من تقرّر الشر في الإنسان.

في شبابه سافر مينغزي من دولة إلى أُخرى وهو يبحث عن حاكم يرسّخ أفكاره في الحكم؛ ملكٍ يحكم اعتمادًا على فضيلة "الرجل الطيب" الذي يسعى إلى تحقيق الرفاه للأفراد والاستقرار للمجتمع. مينغزي يؤكّد أنّ الفقر والجوع هما السببان الأساسيان للفوضى والاضطراب والجريمة. "إذا لم يحظَ الإنسان بحياة مستقرّة وآمنة، فإنّ قلبه سيخسر التعاطف والمحبّة. ومَن يفقد المحبة والتعاطف لن يتوانى عن ارتكاب الشرّ". وبالتالي فإنّ المهمة الأساسية للحكومة هو تأمين الحدّ الأدنى من احتياجات الناس منعًا للفوضى والجريمة. في فلسفة مينغزي توجد إرشادات واضحة للحكم، وتفاصيل بالأرقام حول الضرائب وطريقة مكافأة موظّفي الدولة. طالبَ بنظامِ تعليمٍ يساعد المرء على أن يصبح زوجاً صالحاً ووالداً رؤوفاً وحاكماً عادلاً وطفلاً مطيعاً ووزيراً نزيهاً وصديقًا مخلصاً.

ثمّة حادثّة غريبة تروى عن الأم. عندما بدأ مينغزي ارتياد المدرسة كانت أمّه تسأله يوميًا عن فروضه المدرسية والتزاماته في التعليم. في يومٍ ما، أبدى مينغزي لامبالاة وكسَلاً إزاء واجباته، فقامت الأمّ بتمزيقٍ ثوب كانت تقوم بخياطته. هزَّ الأمر وجدان مينغزي، لأنّ الحياكة هي عمل الأم الوحيد ومصدر دخلها لتربية يتيمها. فأجابت الأم بأنّها في اليوم الذي يُهمل فيها مينغزي واجباته المدرسيّة، ستمزّق الثوب الذي يكلّفها يوم عمل كاملاً ردًّا على ذلك. طريقة قاسية في العقاب جعلت مينغزي ملتزماً بإخلاص بالتردُّد إلى المدرسة.


* كاتب سوري مقيم في برلين

موقف
التحديثات الحية
المساهمون