ميشال بوتور يتأمّل الريف التونسي من وراء الزجاج

25 مارس 2023
ميشال بوتور (Getty)
+ الخط -

ذاتَ صباح أحدٍ ربيعي مشمِس، وأمام كنيسة القدّيس جورج للأرثوذكس اليونانيين في شارع روما بتونس، التقيتُ أوّل مرة ميشال بوتور (1926 - 2016). أتذكّر صمت الصباح وريحاً خفيفة تهزّ سعف نخيل حديقة الكنيسة، التي ترتفع جدرانها المشعّة في ضوء النهار؛ وهي من آخر الحدائق التي صمدت في "المدينة الكولونيالية" أو الحي الأوروبي، حي باب البحر كما يسمّيه التونسيون.

جاء ميشال حسب الموعد الذي نظّمه لوران غاسبار. قال لوران على الهاتف: "هل لديك متّسعٌ من الوقت غداً؟ أتمنى لو اصطحبت ميشال بوتور إلى القيروان". قلتُ في نفسي هي فرصةٌ للقاء بوتور، ولزيارة متحف القيروان مرّةً أُخرى. فأنا أعرف مجموعة العاديات الإسلامية التي جمعها حسن حسني عبد الوهاب، والموجودة في "متحف القصر العلوي" بباردو.

ثم، عاديات الحقبة الإسلامية نادرة، ربما لأن أغلب الأركيولوجيين كانوا من الفرنسيين المتماهين مع العصر الروماني الذي يعتبرونه أحد مكوّنات هويتهم اللاتينية. قلتُ سأذهب لرؤية المخطوطات الأغلبية (من الأغالبة) والفاطمية المعروفة عبر العالم بالمخطوطات الزرقاء، تلك الكتابات العربية بالخطّ الكوفي المذهَّب على الرقّ والأقمشة. لا بدّ أن بوتور مسّتْه هو أيضاً أسطورة المخطوط الأزرق، وهو المأخوذ بالورق والكرتون والخرائط القديمة التي يقصّها ويلصقها ويصنع منها كولاجات، وحتى رسائله التي كانت تصلني، كانت عبارة عن جذاذات مشدودة بعضها لبعض وقطع ورق مختلفة الألوان...

لا يعرف مَن لقيتهم من المثقّفين الفرنسيّين شيئاً عن ثقافتنا

كان بوتور يقف وحيداً ينتظرني وسط الشارع المقفر سوى من بعض العربات التي تمرّ بصمت، يقف غير بعيد عن تلك السيارة البيجو البيضاء الفارهة التي ستقلّنا إلى القيروان. بدا مُسنّاً، قصيراً، بلحيته الخفيفة ونظرته الحالمة الهادئة: القميص الأبيض ذو الياقة الصينية، والصندل، كما لو كان أحد رهبان الآباء البيض الذين جاؤوا إلى الشمال الأفريقي منذ أواسط القرن التاسع عشر لتنصير الأمازيغ أولاً ثم العرب. إنها الكنيسة التي عملتْ بتناغم، بل بمساعدة الدولة الكولونيالية التي تدّعي اللائكية.

للحظةٍ بدا لي بوتور شبيهاً بالأب ديمرسمان، رئيس أساقفة دير الآباء البيض بتونس؛ بياض الوجه الضارب إلى صفرة خفيفة، والملامح الهادئة. رحّب بي بهدوئه النبيل وبابتسامة متحفّظة؛ وأخذني إلى السيارة التي انسابت بنا في ظلال أشجار الجاكرندا بزهورها البنفسجية الزرقاء الفاتحة التي تغطّي الرصيف. انسابت في شوارع الأحد الخالية: شارع روما، شارع فرنسا. مررنا بين بناية الناسيونال والسفارة الفرنسية التي أُقيمت سنة 1862 وفي مواجهتها كاتدرائية تونس؛ كرمز للسلطة الزمنية في مواجهة السلطة الروحية. سطوح السفارة ذاتُ قرميدٍ أحمر؛ عمارةٌ فرنسية من القرن التاسع عشر في أرض غريبة، كما هو شأنهم في نقل عمارتهم إلى بلدان بعيدة بدون اعتبارٍ للنسيج العمراني لثقافة الآخر.

تذكّرتُ صديقي الفنان الفوتوغرافي ليونار دي سيلفا، الذي وضع مع صديق له كتاباً عن العمارة الفرنسية في فيتنام. قال ليونار: كلّ عمارة فيتنام فرنسية كولونيالية، حتى أنهم شيّدوا دار أوبرا في سايغون، هي نسخة حقيقية لأوبرا باريس. قالها بسخرية من ساسة بلاده في الحقبة الكولونيالية. قلتُ: مدينة الجزائر الحديثة تخطيطها العمراني نسخةٌ من المدن الفرنسية. استعدتُ صورة كاتدرائية سيدة أفريقيا العملاقة بعاصمة الجزائر، والشبيهة بكاتدرائية مارسيليا؛ أي عنف عمراني!

توغّلنا في شارع الصادقية الذي تحوّل بعد حرب حزيران/ يونيو إلى شارع جمال عبد الناصر، بأشجاره التي تغطّي ظلالُها الرصيف، ومن هناك مررنا إلى ساحة باب الجزيرة الذي يحمل ذكرى جزيرة شريك أو دخلة المعاوين. ومن ثمّ عبرتْ بنا السيارة إلى باب عليوة. تبادلنا كلمات المجاملة الأولى...

كانت السيارة تمضي على أوتوستراد سوسة وزهور المارغيريتا الصفراء والبيضاء تشتعل في ضوء الصباح على جانبَي الطريق. سألني عن علاقتي بلوران غاسبار، وعن مجلّة "ألف" التي أصدرها لوران في تونس. دفعتُ بالحوار نحو الثقافة العربية. ذكرت له "ألف ليلة وليلة"، إذ أدري أن هذا الرجل الذي يجلس إلى جانبي ينتمي إلى ثقافة كولونيالية لا تعترف بثقافة الآخر؛ بل لا تعترف بالآخر إلّا بوصفه موضوعاً للتلقين. عندما دخل الجيش الفرنسي في آخر نيسان/ إبريل 1881 من الجزائر عبر مدينة طبرقة لاحتلال تونس، خطب رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك جول فيري، خلال جلسة صاخبة في البرلمان الفرنسي: "ذهبنا إلى تونس لأن لنا مهمة التبشير بالحضارة". استعمل كلمة MISSION (تبشير)، وهي نفسها اللفظة التي تُستعمل في نشر المسيحية؛ يقولون: Mission chrétienne (تبشير مسيحي)، التي تحوّلت إلى Mission civilisationnelle (تبشير "حضاري"، أو "مهمّة حضارية"). كل مَن لقيتهم من المثقّفين الفرنسيين لا يعرفون شيئاً عن ثقافتنا وحضارتنا، باستثناء جون غروجون الذي أنجز أهمّ ترجمة للقرآن الكريم في القرن العشرين. كنتُ أقول لمَن ألتقيهم: نحن جيران في الجغرافيا، بعيدون في الوعي...

تجنّب بوتور الحديث عن أقاربه من المستوطنين في تونس

كما أدري أن بوتور لا يعرف من ثقافتنا سوى "ألف ليلة وليلة" التي تحوّلت لديهم إلى أسطورة. قلت: هل تدري أن "ألف ليلة وليلة" نصٌّ من الأدب الشعبي عندنا؛ ويُعتبر هامشياً في ثقافتنا الكلاسيكية العليا، وهو لا يُدرج في تاريخ الأدب العربي، والناس في المعاهد الإسلامية الكبرى، في "الزيتونة" و"الأزهر" وفي "القرويين"، لا يدرسون "ألف ليلة وليلة" على الإطلاق؟

بدا على وجهه تعبير استغراب غامض لم يُفصح عن نفسه. أكملتُ: "أبدع العرب 'ألف ليلة وليلة' بالعامّية ولم يتّخذوا الفصحى للتعبير عن دراما الحياة اليومية. قال: "ونحن أيضاً في القرون الوسطى لم نكتب الرواية باللغة اللاتينية، فهي لغة الكنيسة والناس لا تتكلمها، لأن الرواية هي لغة الناس؛ وهكذا ظهرت الرواية عندنا بعد تراجع اللغة اللاتينية؛ ظهرت مع صعود اللغات المحلّية الشعبية. انظر إلى لغة ثيربانتس...".

قلت: "'ألف ليلة وليلة' هي أيضاً باللغة العامّية التي كان يتكلّمها الناس في أسواق بغداد والقاهرة ودمشق والإسكندرية، ولأن انتقالها كان شفوياً، فقد تعرّضتْ لتحويرات كثيرة. كان كلّ حكواتيّ يرويها بلهجته". في تلك اللحظة جاءني صوت السائق فجأة. كنت أعتقد أنّنا وحدَنا في هذا المكان؛ نسيتُ العالم من حولي: السيارة والسائق. قال: "هل تريدان الذهاب إلى القيروان بطريق سوسة؟"؛ أجبت تلقائياً: "نذهب بطريق الفحص". تذكّرتُ قنطرة الفحص، والعرب الهائمة بخرفانها في تلك الأراضي، وخيام البدو الرحّل الذين نسمّيهم الهطّاية، تبدو في الأفق، فهو موسم صعودهم إلى الشمال الذي يسمّونه إفريقا والآبار التي تُستخرج مياهها بواسطة الإبل التي تجرّ حبال القرب الجلدية. ينزل الجمل منحدراً، طوله بعمق البئر، وهو يجرّ الحبل على الأسطوانة الخشبية، ثم يعود القهقرى لتنزل القربة من جديد في مياه البئر...

عادت إليّ صور الوهاد الجرداء المحيطة بمدينة زغوان الأندلسية. كان هناك قمرٌ شاحب في السماء الزرقاء الربيعية، لا يكاد يُلمح. حركة العصافير فوق الروابي. غاب بوتور، انشغل بمشاهدة الريف من وراء زجاج النافذة. أدري أن له أبناءَ عمومة استوطنوا في شمال تونس من ضمن "المعمرين" الفرنسيين ــ وهم المستوطنون في المصطلح التونسي ــ الذين استولوا على أراضي الشمال الخصبة. تذكّرت مأساة الفلّاحين التوانسة أوّل القرن العشرين، الذين انتُزعت منهم أراضيهم، وكتب عبد العزيز الثعالبي عن هذه التراجيديا كتابه العتيد "تونس الشهيدة". ولكنّ بوتور أخفى ذلك جيّداً. لم يتحدّث عن أقاربه الذين قرأت حديثه عنهم صدفةً في إحدى زياراته إلى تونس أول الستينيات...

كنتُ دائماً أتساءل عن ذاك الانفصام لدى الكتّاب الفرنسيين من أمثال بوتور، وأندريه مالرو، وأندريه جيد، الذي ذهب إلى مدينة بسكرة في الجزائر وإلى الجنوب التونسي بحثاً عن "غِذاء الأرض"، كما يسمّي لذائذه الجسدية. هناك وصفٌ مفصَّل في يومياته لتلك العلاقات الجنسية المثلية. جيلٌ موسوعي، شديد الإيمان بمبادئ الثورة الفرنسية وشرْعة حقوق الإنسان، وفي الآن نفسه يقبل بكلّ الممارسات الاستعمارية اللاإنسانية، وآخرهم ألبير كامو الذي لم يرَ في آلام الجزائريين ما يُعادل معاناة أمّه...


* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون