موريس غودلييه.. الأسطورة ونظم القرابة عند ليفي ستروس

23 يناير 2022
كلود ليفي ستروس، Getty
+ الخط -

في عام 2013، نشَر الأنثروبولوجي الفرنسي موريس غودلييه كتابه "ليفي ستروس" الذي يتضمّن قراءة في أعمال أستاذه عالم الاجتماع وفيلسوف البنيوية (1908-2009) حول الأسطورة وتفسيراتها لنشأة الكون والإنسان وظواهر الطبيعة. 

عن "سلسلة ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدرت حديثاً النسخة العربية من الكتاب بترجمة الكاتب اللبناني نصير مروة، الذي يسترجع مسيرة ستروس من خلال زوايا ثلاث: الطموح، والمنهج، والنتائج. فأما الطموح، فقد كان واضحاً منذ المنطلق: بلورة نظرية عامة في القرابة في ثلاث مراحل وثلاثة كتب.

يتناول في قسمين، من خلال دراسته أهم مؤلفات كلود ليفي ستروس، مجالَي القرابة والأساطير، فيعرض في الأول نظم القرابة والزواج حول العالم، وخصوصاً عند قبائل السكان الأصليين، فيصنفها ويحللها ويقارن بينها، ويرى أن المشترك بينها مبدأ واحد: تبادل النساء، أو الهبة. ثم ينتقل في القسم الثاني إلى تحليل الأساطير عند السكان الأصليين، ولا سيما في قارتي أميركا وأوقيانوسيا، ويربطها بمحاولة هذه الشعوب تفسير نشوء الكون والإنسان والطبيعة والظواهر المرتبطة بها، ثم يخلص إلى أن ثمة عملياتٍ للعقل البشري تنتج هذه الأساطير وفق ترسيمات تحكمها معادلة واحدة ابتكرها ليفي ستروس، سمّاها المعادلة الأم للأساطير.

غلاف الكتاب

يجنّد ستروس المفاهيم التي استنتجها وعرَفها من زاوية نظرية واضحة لتحليل نُظُم القرابة الموجودة، بحسب الكتاب، حيث يدور الاستنتاج الأول حول الفرق في الطبيعة بين أبناء وبنات الخال والعمة وأبناء وبنات العم والخالة، الأولون يُسمَح بالتزاوج بينهم، أما الآخرون فلا. ويعمد ليفي ستروس، متسلحاً بهذه المجموعة من المفاهيم الحاضرة أصلاً في الأنثروبولوجيا قبل أن يعيد هو تعريفها، إلى التصدي لتحليل النُّظُم الأسترالية على التوالي، من تلك التي تستند إلى الأشكال المباشرة لتبادل النساء في كنف عالم مقفل مكون من اثنتين، وأربع، بل ثماني مجموعات تبادلية تدعى نصفيات وفروعاً وفروع فروع. ثم يطرح معادلة الممنوعات المصوغة بعبارات ذاتية المركز [متمحورة على الذات]، وممنوعات أخرى مصوغة من زاوية مجتمعية المركز [متمحورة على المجتمع]، بحسب انتماء الأشخاص إلى فرعٍ أو إلى فرعِ فرعٍ مختلف.

إن ما جاءت به البنى الأولية للقرابة من تغييرات هائلة في المنظورات، ولا سيما أن التحليلات كانت تستند إلى تبحر واسع مؤسس على معرفة بالمعطيات التجريبية، وعلى النقاشات التي راكمها خلال أكثر من نصف قرن علماء الأنثروبولوجيا في العالم الأنكلوسكسوني: الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وأستراليا. لكن شيئاً من هذا لم يكن متوافراً في فرنسا، ولا في أوروبا. فإنما هو ليفي ستروس من أنشأ القاعدة الضرورية لعمل الباحثين الذين سيخلفونه، وفق غودلييه.

أما الموجة الثانية من الابتكارات الأساسية، فقد أطلقها في "محاضرة هكسلي التذكارية السنوية"، التي ألقاها في عام 1965 أمام نخبةٍ من علماء الأنثروبولوجيا الأنكلوسكسونيين، وفيها أعاد كلود ليفي ستروس تسمية النُّظُم التي يطلق عليها اسم كراو - أوماها، التي وعد منذ البنى الأولية أن يهتم بها ذات يوم، باسم "البنى نصف المركّبة"، فحذف منها كل النُّظُم التي توصي بالزواج بواحدة فقط من بنات الخال والعمة، هي ابنة الخال، والتي كانت تصنَّف حتى ذلك الوقت بصفتها نُظُمَ كراو - أوماها.

ويرى غودلييه أنه حينما كتب كلود ليفي ستروس "سبيل الأقنعة" (1975)، وجد نفسه يواجه صعوبتين سبق أن صادفهما فرانز بواس، على الرغم من مرور عقود من المعاينات والمشاهدات القيّمة في محاولته توصيف نظام القرابة لدى أقوام الكواكيوتل، صانعي ومستخدمي الأقنعة الرائعة التي كان ليفي ستروس مولعاً بها. وقد شرع الرجل في حل المشكلة حين تراءت عنده موجة ثالثة من الابتكارات النظرية في حقل القرابة.

بدأ كلود ليفي ستروس رحلة حول العالم، عبر عشرات الدراسات التي قام بها علماء أنثروبولوجيا ومؤرخون، بحسب المؤلف، لكي يجد أمثلة على مجتمعاتٍ "ذات بيوتات". وبانتقاله من إندونيسيا إلى مدغشقر، مروراً بميلانيزيا وبولينيزيا، اكتشف الكثير، وتخيل البعض القليل. أحد الأوجه المهمة لتلك الرحلة أنها كانت رحلة في الزمان أيضاً، وأن أعمال مؤرخي القرون الوسطى الأوروبية أو القرون الوسطى اليابانية هي التي أرشدته إلى الطريق. حوارٌ جديد وتعاونٌ جديد أصبحا ممكنين بين مؤرخين وعلماء أنثروبولوجيا.

ويخلص الكتاب إلى أن كلود ليفي ستروس سلك في ما عنى الأساطير، كما سلك بالنسبة إلى بنى القرابة: البحث عن عمليات الفكر الضالعة في إنتاج علاقات ووقائع اجتماعية (صيغ زواج، وأساطير وشعائر، وغير ذلك) والبقاء على مقربة من المعطيات الإثنوغرافية والتاريخية، ولأنه سلك هذا المسلك، فإنه جعلها تقفز قفزة كبرى في دراسة بعض الأوجه الأساسية لحياة البشر وفهمها.
 

المساهمون