من طفولة منتهية الصلاحية

15 يونيو 2023
مقطع من لوحة للفنان الفلسطيني أحمد نعواش
+ الخط -

منتهية الصلاحيّة

لا هتافات في جنازة المرأة المغدورة
كالتي يُصغي لها الشهداء
قبل أن يخلدوا للتراب...

لا أدعية كالتي تُرافق
ميّتاً في حادثٍ عَرَضيّ

دموعٌ صامتة فقط
مشفوعة بالصبر والسلوان

وأقدامٌ صغيرة
تُهرول لإيقاف الذاهبين إلى القبر
وإنزال الجسد عن الأكتاف العالية
التي أحكمتْ قبضتها على النعش

وحدها الأفواه المشدوهة
تشمّ رائحة الجثّة في بيت العزاء

وحدها تبثّ صمتاً أسودَ وثقيلاً
ونحيباً متقطّعاً
يُفشي بسرّ الموت الذي قفز مثل أحجية
من راحة يد شقيقة

أمّا الأطفال الجالسون
على عتبة البيت
فيكبرون على فقدان مُبهَم
أصبح جزءاً حميماً
من طفولة منتهية الصلاحيّة!


■ ■ ■


خيط مربوط بالأفق

بدا البالون الحارق
الذي تدفعه الريحُ
صوب أفقٍ مرسومٍ بالعين المجرّدة
مثل معجزةٍ طازجة
لأولادٍ يكبرون
في مدينةٍ مخطوفةِ النوافذ.

كانوا ينفخون الهواء الساخن
في الواقيات الذكريّة،
لتحلّق دون أثرٍ أو صدى
أمام شاشات الرادار
فوق الأسلاك الشائكة
وأبراج الحدود الرماديّة.

الأولاد يتحسّسون بأطراف أصابعهم
جهة الريح
ويشدّون طرف الخيط الذي يصلهم بالأفق
ثم يعتقونه دفعة واحدة:
مرّةً أخرى، لن ترتجف رغباتهم
في الواقيات الذكريّة
كرعشةٍ مخنوقة
بل ستحلّق مثل طائرة صغيرة
تشتعل في الفضاء!


■ ■ ■


مظلّاتٌ طائرة

يكرهُ في الوُرودِ هشاشَتها
بَريقها الآنيّ
عمرها المعدود بالأيام
ورائحتها التي بالكاد تعلق بالأنف

البتلاتُ الماكرةْ
بجمالِها الغادر
وسحرُها المثير لليأس
تعكّر من خلوته!

كان يُداعب وجناتها الممتلئة
في المزهريّة
قرب المرآة الكبيرة
ويجسّ ترابها كلّ صباح
كمَن يطمئنّ على قلبٍ ينبض،
ويُباعد بين سيقانها
ليمرّر أصابعه
والهواء الخصب
وينثر الماء والموسيقى
ويعرّضها لشمس آخر النهار.

لكنّه الآن يَفْرطُ أوراقها
التي هرمتْ بسرعةٍ
لا تليقُ بكائنٍ حيّ،
ويحملها براحةِ يديه
إلى النافذة
كي يمتّع نفسه بمشهدٍ أخير:
ينثرها في الهواء
لتهبط ببطءٍ
كمظلّاتٍ طائرة
كأنها ما زالت عالقة بالحياة!


■ ■ ■


صالةُ انتظار

أَنْ تشعرَ امرأةٌ بطمأنينةٍ قُربي
يمنحني إحساساً دافئاً
ونشوةً عميقةً... تتسلّلُ إليّ بصمت

قد يحدثُ هذا
على كرسيٍّ في صالةِ استقبالٍ
حيثُ يكونُ للانتظار
معنى واضحٌ وهدفٌ مؤقّت!

أو في وسيلةِ نقلٍ عام
حيث تتجاورُ المقاعدُ
لأناسٍ يلتقون دائماً بالصدفة

أو على مقعدٍ في حديقةٍ عامّة
نتقاسمُ مشهداً واحداً
كأننا ننظرُ
من نافذتَيْن متجاورتَيْن

قد يحدثُ أن تتصرّفَ
امرأةٌ بأريحيّةٍ قُربي

تتهادى ملامحها...
تمدّ ساقيها بكامل حرّيتها
وتتلفّتُ حولها بتلقائيةٍ سافِرةْ

وقد تُبادلني ابتسامة
عند النهوض
تأخذها معها في طريق ذهابها!

أن تشعرَ امرأةٌ
بطمأنينةٍ قُربي
يردمُ الهوّة التي تحفرها
الرغبةُ الجامحةُ في الصدر

أحيانا، ومن غيرِ قصدٍ،
توقظُ أكثرَ شهواتي شبقاً
حدّ الانتصاب!

■ ■ ■


مشهدٌ غامضٌ في متحف

الأعرجُ الذي يرافقُ امرأةً بعيونٍ زرقاء
في متحفِ الفنّ المُعاصر
شغَلَكَ أكثر من لوحات فان غوخ
المعلّقة بسحرها الوحشيّ منذُ القرنِ التاسع عشر!

رحتَ تتأملُ مشيتهما الحميمة
وتبحثُ في حبٍّ غيرِ متكافئ جسديّاً
عن لغزٍ عاطفيٍّ...

أوقعَ بها دون نزهاتٍ طويلة
أو مطارداتٍ شقيّةٍ قُرب النهر
ومن دون رقص!

ربما استدرجها الثراءُ الآسر
الذي يرقّقُ القلوبَ
مثل كُراتِ العجين في يدي الخبّاز

أو لجرحٍ عميقٍ خلّفته علاقةٌ سابقة
فاختارتْ رجلاً ضعيفاً
تأمنُ يوماً خيانته
وتتّقي شرورَ المُحبّين المباغتة!

لن يهدّدها بالوحدة يوماً
لن يهجرها... بل سيبقى عالقاً،
في دهشةٍ دائمة!

وسيمنحها سبباً وجيهاً
لإحساس القدّيسين الخالص بالتضحية
وسيمنحها، إنْ شاءتْ
ذريعةً سائغة
لممارسة متعتها الأبديّة بالتذمّر.

لكنّكَ لن تُحيل الأمر إلى معادلات
الحُبّ الطبيعي المُتبادَل...

ربما عليكَ الإقرار يوماً
أنّ أعرجَ بقميصٍ أسود بسيط
وألقٍ حقيقيٍّ خافت...
يمكن أن يملكَ ما تحلمُ به
دون شريكٍ وبلا منازع!


* شاعر فلسطيني مقيم في باريس، والقصائد من مجموعة "مهرولاً على ساقٍ واحدة" الصادرة حديثاً عن "دار النهضة العربيّة" في بيروت

 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون